ترددت كثيراً قبل
تقييم هذا الكتاب فأحيانا أشعر أنه لايستحق أكثر من ثلاث نجمات وأحيانا أشعر أنه
يستحق خمس نجمات ويضاف إلى المفضلة... بالضبط هكذا أسلوب الكواكبى؛ أسلوب ممتموج:
كثيرا مايصل بروعة الأسلوب وجلال الموضوع إلى ذروته فتتمنى أن تستمر تلك المتعة
إلى نهاية الكتاب وأحيانا مايستخدم أسلوب معقد مستطردا فى مالايجب الاستطراد فيه
فتتمنى أن ينتهى هذا الكتاب قبل أن يقتلك الملل....أسلوبه رصين العبارات قوى
المعنى, كثيرا ماتجد كلمات لم تعهد بها من قبل فيصل إليك المعنى ناقصا, لذلك مااستغنيت
عن المعجم الوجيز أثناء قراءته. أعتقد أن قراءة كتاب مثل هذا قبل الثورة, تختلف
تماما عن قراءته بعدها, كما تختلف المتعة بالطبع, لكن الكتاب لم يكن متاح إلا بعد
الثورة !
لكنى أرى هذا
الكتاب ينطبق تماما على الحالة السورية الآن؛ فهو تجسد للاستبداد بكل حزافيره,
ولاغرو فى ذلك فالكواكبى سورى حلبىّ بامتياز, نشأ فى كنف الاستبداد العثمانى, وعلم
مساويئه وشروره, فشق عليه وهو الناهل من نهر العلم يجيد العربية والتركية وشئ من
الفارسية دارس للعلوم الطبيعية- أن يبخل عن قومه الأسراء بعلمه, فأنفق حياته فى
سبيل معرفة أسباب تأخر الأمم, وقرأ فى ذلك الكثير وسافر إلى بلاد شتى وتأرجح رأيه
مابين الفقر و الجهل و المرض كغيره ممن بحثوا... حتى استقر على رأيه الأخير بأن
أصل أمراض الأمم هو الاســتــبــداد .
"لكن أبدا لاتقيم كتاب إلا
بعد أن تنتهى من قراءته" فيستحق الكتاب خمس نجمات, فهو مجملا كتاب يستحق
القراءة والتروى فى ثناياه حتى يتبين لنا الرشد من الضلال. فالاستبداد شبح رابض فى
كل بيت شرقى من يتجاهله لايستحق الحرية, كما يقول الكواكبى: "الأمة التى لا
يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية".
ماعجبنى:
عامة: بحث
الكواكبى فى موضوع الاستبداد بحثا موفقا جامعا موضوعيا شاملا.
ليس الاستبداد بالأمر المكتشف أو الاختراع
الجديد, فيمكن لأى منا أن يكتب عنه ويستطرد فيه(ولما لا ونحب العرب غارقون فى بحور
الاستبداد), لكن الأمر يختلف إن كان الكاتب مطالع جيد لأحوال الأمم وعلوم الإجتماع
وطبائع الناس, فيعطى لك أبعادا جديدة للموضوع حتى تتكشف لك أشياء لم تكن فى فكرك,
وهكذا تصبح ملم بطبائع الاستبداد وأشكال المستبدين والأسراء(الواقعون تحت أسر
الاستبداد).
من أسباب مغالاة
البعض فى أحكام الإسلام. أنهم يرون فيها بعض القسوة واللامدنية, مثال ذلك تحريم
الربا, وقولهم أن ذلك يضيق حدود المعاملات ولايتسع لحجم الاقتصاد العالمى الحالى,
لكن الكواكبى أخرج صورة مختلفة لهذا التحريم لنجد أنه يتانسب مع أقوى المدنيات
متماشيا مع نماء الإقتصاد: فيقول الكواكبى "أن تحريم الربا إنما جاء لأنه كسب
بدون مقابل مادى ففيه معنى الغصب, وبدون عمل لأن المرابى يكسب وهو نائم ففيه
الألفة على البطالة, ومن تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك ففيه
النماء المطلق المؤدى لانحصار الثروات"
كذلك استدلاله على
"ترك الصلاة بالتكاسل وفقد النشاط, وترك الصوم على عدم الصبر, وبالسكر على
غلبة النفس العقل ونحو ذلك"
مآخذى على الكتاب:
- فى صفحة 34 يقول فى آية: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)
إن التفسير الشائع للآية
خطأ وهو: أن الله لا يأمر إنسان بفسق, فيبرر ذلك هو بأن :أمرنا –بكسر الميم أو
تشديدها- جاءت بمعنى جعلنا المترفين أمراء. فهو يغير كلمة من القرآن !!!
- أحيانا يستطرد ويعارض وينتقد فى أشياء ليست
موجودة أصلا مثال ذلك ماجاء فى صفحة 37 أغلبها ليس موجود..
- غفل الكواكبى عن
نوع خطير من المستبدين وهم من يمارسون سلطتهم الاستبدادية وقهر الشعب على ظن منهم
أنهم على صواب, وربما يظنون أنها تصب فى مصلحة الرعية يساعدهم على ذلك الحاشية السوداء
التى تحجم لهم الأمور على أهواءهم.
ذكر الكواكبى فى
صفحة 126: "قد فضل الله الكناس على الحجام وصانع الخبز على ناظم الشعر لأن
صنعتهما أنفع للجمهور" لا أعرف لو كان هذا التفضيل أقره الله عز وجل أم لا,
لكنى لاأعتقد ذلك فالشعر والأدب هما من دروب الفكر الذى تستقيم بها حياة الناس
الأدبية..
ذكر الكواكبى حديث
للنبى (صلى الله عليه وسلم):"قد افتخر النبى(صلى الله عليه وسلم) بأنه ولد فى
زمن كسرى أنو شروان عابد الكواكب فقال:"ولدت فى زمن كسرى", بحثت عن هذا
الحديث على الإنترنت لكنى لم أجده سوى فى صفحة واحدة ذكرت أن الحديث ضعيف..
فى نهاية قراءتى
اكتشفت سبب آخر لوهن شوكة الإسلام والمسلمين, ألا وهو: إغفال وتهاون البعض حقوقهم
وواجباتهم, فأعتقد أن هذا أصل الداء..
اقتباسات من طبائع
الاستبداد ومصارع الاستعباد :
- عجبنى تعريفه
للاستبداد فيقول: ("لما كان تعريف علم السياسة بأنه هو "إدارة الشئون
المشتركة بمقتضى الحكمة" يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها بحث
(الاستبداد) أى "التصرف فى الشئون المشتركة بمقتضى الهوى") لكنه يستخدم
تعريف أخر فى صفحة 130 فيقول: "هو الحكومة التى لايوجد بينها وبين الأمة
رابطة معينة معلومة مصوبة بقانون نافذ الحكم".
- "الحرية
أفضل من الحياة".
- نظرية اجتماعية خطيرة: "إن الثورة تعين
أهل البيت على إخفاء بعض رذائلهم عن أولادهم ومن حيث هى مدعاة غالبا للتمثل
بالأقران مشوقة للتفوق والتميز, ومن حيث تقويتها العلاقة بالأمة والوطن خوف مذلة
الاغتراب, ومن حيث إن أهلها يكونون منظورين دائما فيتحاشون المعائب والنقائص بعض
التحاشى."
- "... حتى إذا ما اكفهرت سماء عقول بنيها قيض الله
لها من جمعهم الكبير أفراداً كبار النفوس قادة أبرار يشترون لها السعادة بشاقئهم
والحياة بموتهم, حيث يكون الله جعل فى ذلك لذتهم ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلقهم
كما خلق رجال عهد الاستبداد فساقاً فجاراً مهالكهم الشهوات والمثالب. سبحان الذى
يختار من يشاء لما يشاء وهو الخلاق العظيم ."
- "الاستبداد
لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: "أنا الشر وأبى الظلم وأمى الإساءة
وأخى الغدر وأختى المسكنة وعمى الضر وخالى الذل وابنى الفقر وبنتى البطالة وعشيرتى
الجهالة ووطنى الخراب, أما دينى وشرفى وحياتى فالمال المال المال".
- هذا الاقتباس
منطبق على حال البعض بعد الثورة: " وقد يظنُّ بعض الناس
أنَّ للاستبداد حسناتٍ مفقودة في الإدارة الحرّة، فيقولون مثلاً: الاستبداد يليّن
الطباع ويلطِّفها، والحقُّ أنَّ ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة.
ويقولون: الاستبداد يُعلِّم الصغير الجاهل حسن الطاعة والانقياد للكبير الخبر،
والحقُّ أنَّ هذا فيه عن خوف وجبانة لا عن اختيارٍ وإذعان. ويقولون: هو يربّي
النفوس على الاعتدال والوقوف عند الحدود، والحقُّ أنْ ليس هناك غير انكماشٍ
وتقهقر. ويقولون: الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحقُّ أنَّه عن فقر وعجر، لا عن
عفّةٍ أو دين. ويقولون: هو يقلل التعديات والجرائم، والحقُّ أنَّه يمنع ظهورها
ويخفيها، فيقلُّ تعديدها لا عدادها".
- " الأخلاق أثمار بذرها الوراثة، وتربتها
التربية، وسُقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة، بناءً عليه؛ تفعل السياسة
في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر".
- "التعليم ملكة تحصل بالتعليم والتمرين
والقدوة والاقتباس".
- " ولو اهتديتم الى السبيل لعلمتم أن الهرب
من الموت موت ن وطلب لموت حياة ، ولعرفتم أن الخوف من التعب تعب ، والأقدام على
التعب راحة ، ولفطنتم الى أن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم الأحمر
المسفوح ، والأسارة هي شجرة الزقوم ، وسقياها انهر من الدم الأبيض أي الدموع ، ولو
كبرت نفوسكم لتفاخرتم بنزيين صدوركم بورد الجروح لابوسامات الظالمين ".
- " نحن ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس
رقابنا . ألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق ، ألفنا الأنقياد ولو الى المهالك
. ألفنا أن نعتبر التصاغر أدبا ، والتذلل لطفا ، والتملق فصاحة ، واللكنة رزانة ،
وترك الحقوق سماحة ، وقبول الأهانة تواضعا ، والرضا بالظلم طاعة ، ودعوى ألأستحقاق
غرورا ، والبحث عن العموميات فضولا ، ومد النظر الى الغد أملا طويلا ، والأقدام
تهورا ، والحمية حماقة ، والشهامة شراسة ، وحرية القول وقاحة ، وحرية الفكر كفرا ،
وحب الوطن جنونا ".
- "الاستبداد لايقاوم بالشدة إنما يقاوم
باللين والتدرج".
- "يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا
يستبدل به الاستبداد".
- "الحرية التى تنفع الأمة هى التى تحصل
عليها بعد الاستعداد لقبولها, وأما التى تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئا,
لأن الثورة غالبا تكتفى بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها, فلا تلبث أن تنبت
وتعود أقوى مما كانت أولا".
وبخصوص كتاب أم القرى:
"ألفه الكواكبى على هيئة اجتماعات مكونة من
كبار علماء الإسلام من مختلف البقاع الإسلامية؛ الجزيرة العربية, مصر, الشام,
الهند, فارس, وتركيا ... إلخ
وطبعا هذه الاجتماعات من خيال الكواكبى وقد وضع
فيها الأسس الواجب رعايتها لعقد مثل هذه الاجتماعات وخصصها لبحث فساد الأمم (أصل
الداء-أسبابه-أعراضه-علاجه)
أعتقد أنها قد تكون مشروع دستور إسلامى صحيح
البنية وقد تكون مشروع لحياة أى مسلم عاقل غيور على دينه..