الأحد، 2 فبراير 2025

حكايات آل شواف

يحكي أبي حكايات عن جدي الأكبر- الشواف، وعن رحلته الأسطورية التي انتهت بميلاد قريتنا -قرية الشوافين.
وحكايات عن الأبناء والأحفاد، وقصة انقسام العائلة إلى فرعين، فرع بقي في القرية يزرع ويحرث، وفرع انقطعت صلاته بقرية الجد، وأرسى جذورا جديدة في القاهرة منذ زمن الملك فؤاد الذي يتردد اسمه في سيرة سلامة أفندي الشواف أحد عمال البلاط في القصر الملكي وواقعة إنقاذه الطفل فاروق الذي تسلل إلى الاسطبل ليُلاعب الخيول، فكافأه الملك نظير يقظته وإنقاذه ولي العهد، أما المكافأة فلها حكاية أخرى.
هكذا بدأت حكاية آل شواف في القاهرة وهكذا اجتثت نفسها من جذورها الأولى في القرية، ولا يربط بين الفرعين غير لقب العائلة الذي سيتعرف منه أخي الصيدلي على أحد عملاء الصيدلية التي يعمل بها في القاهرة، لتُدبر صدفةٌ عجيبة اللقاء النادر بين الفرعين البعيدين. يقول أخي ساخرا أنه ألف فيه بعضًا من سمات العائلة، لكنها سخرية تحمل بين طياتها أُلفة الدم الواحد.
الحكايات شيقة إلى أبعد الحدود، لا أسمعها من أبي إلا وأتخيلها ممثلةً في سياق تلفزيوني على طريقة مسلسلات أسامة أنور عكاشة أو ملاحم نجيب محفوظ، خصوصا وهي تُحكى من أبناء القرية المولعين بالحكايات ولا يُسلمون أفئدتهم إلا للممتع منها، ويرفضون ما دون ذلك أو يسخرون منه.
ولا تكتفي الحكاية الكبرى بالشواف وأبنائه بل تحمل معها حكايات غرباء حلّوا في قريتنا وعرفهم أجدادي، منها قصة الحقيبة الخشبية التي ورثها أبي عن جدي-أبيه، واستعملتها فيما بعد في نقل أغراضي إلى سكني أثناء دراستي الجامعية في الزقازيق. ذات ليلة حكى أبي حكاية الحقيبة؛ يقول أنه في يوم من أيام الصيف ظهر غريب يجوب القرية ببضاعة في شنطة خشبية على عربة يجرها حمار، ينادي مشترٍ لها، لا يمل ولا يمسه التعب في القرية الفقيرة، فاستأنس جدي بصوته وأُعجب بسعيه، فدعاه عنده ليشرب الماء ويستريح، وحكى له الرجل حكايته وهي حكاية عجيبة من حكايات الزمان، ونشأت صداقة بين جدي والغريب امتدت لسنوات، حتى جاء الرجل ذات يوم بخبر قراره الهجرة إلى الحجاز. هاجر الغريب وترك حقيبته في بيت جدي أو ربما نسيها أو أعطاها لجدي تذكار.

لا أستمع للحكايات من فم أبي، وهو المولع بالتاريخ بطبعه، من منطلق الابن الحامل للواء تاريخ عائلته، الحافظ لها من بطش يد الزمن، وهي سمات ربما يُخذل من يتوهمها فيّ، وإنما أستمع لها بشخصيتي الأدبية حاضرةً متوثبةً فرصة الحكاية الخالدة.
تمتد رغبتي في الكتابة عن تاريخ عائلتنا إلى سنوات بعيدة، منذ الوقت الذي وعيت فيه على ميولي الأدبية. ساعتها شعرت بأن نوعًا من الواجب يحتم علي التخلي عن همومي الذاتية قليلا -وهي الركيزة الأساسية في معظم ما أكتب، وأولي اهتماما للكتابة عن حكايات جدودي، فمن أقدر مني على تخليد الحكاية كتابةً من بين كل من سمعوها في سهراتهم وسمرهم على المصاطب وداخل البيوت في قريتنا؟
احتدمت هذه الرغبة أكثر بعد وفاة آخر جدودي وأكثر الحافظين المخلصين لسيرة العائلة ومرجع للكثير من دقائقها. وكم من مرة فكرت أن أزور هذا الجد وأنهل منه كل الأسرار، لكن الكسل والتسويف كانا أقدر من خطتي الطموحة. خلّفت وفاته شعورا بضياع حكايات واندثار أسرار، وخسرانها إلى الأبد.

أقرأ حاليا كتاب "أعوام نجيب محفوظ: البدايات والنهايات" للأستاذ محمد شعير، وهو كتاب في دراسة السيرة الذاتية لنجيب محفوظ منطلقا من نص سيري كتبه محفوظ في فترة المراهقة.
لا أقرأ أو أسمع عن سيرة نجيب محفوظ إلا وفتيل الكتابة يشتعل بداخلي، أو قل شجاعة خوض التجربة، والتي يبدأ منها أي نص جيد أكتبه. وهو تأثير لا يُستغرب ممن أعتبره مثلًا أعلى في فلسفة الحياة قبل الكتابة. تلاقت فكرة الكتابة عن "آل شواف" مع هذا الحماس المتولد وأنا أقرأ عن حياة نجيب محفوظ، ففتحت صفحة جديدة على تطبيق التدوين في هاتفي... استغرقت ثوانٍ للوقوف على عنوان جيد وأخّاذ، اخترت الأبسط من بين كل العناوين التي فكرت فيها: "حكاية آل شواف"، تلى ذلك تحدٍ من نوع آخر، وهو كيف أبدأ القصة، على هذا الخط الزمني الممتد لما يقرب من قرنين، أي حدثٍ زمني يمكنه أن يولّد كل الأحداث التالية له... لم أجتهد كثيرا واخترت مشهدا من الطفولة أتذكره جيدا، وكانت هذه الافتتاحية:
" احتدمت حركة مألوفة لكنها محبوبة في المطبخ حيث يجري تحمير البطاطس والباذنجان تحت صوت طشات الزيت المغلي. يأتي الثلاثاء غالبا بأفكار غداء اقتصادية ولا يتربع على عرش الوجبات الاقتصادية سوى كشري العدس الأصفر مع البطاطس والباذنجان المقليين والبيض المسلوق.
تسخر الأم متهكمة ونحن نخطف أطباق الطعام مستبقينها إلى الصالة حيث تتوسطها الصينية المعدنية الأكبر: 
- ياريت أشوفكم بتاخدوا الأطباق المطبخ بعد الأكل زي ما بتخطفوها على الصالة.
بينما نتناول الغداء، سمعنا صوت أقدامٍ تصعد درجات السلم في عُجالة، فهدأت حركة الملاعق وأصخنا أسماعنا للقادم المتعجل، دخل إبراهيم ابن عمتي وزميلي في الصف الثالث الإعدادي، صاح لاهثا بمجرد أن لمحنا مجتمعين:
- جدي مات
"

انتهت التجربة ولم أحاول الاستمرار أو إجراء تعديلات. وربما ماتت معها فكرة مشروع الكتابة عن "آل شواف".

 ذكرني هذا النص بمحاولات الكتابة الأولى حيث لم يكن لي صوت أو شخصية أسلوبية، وكل محاولات الكتابة حينها كانت لأصوات كتاب آخرين أكننت لهم إعجابًا، لم يكن عندي القدرة على التمييز بين صوتي الخاص النابع من تجربتي، وبين صدى صوت كاتب أقرأ له، لأنه في الحقيقة لم يكن قد تشكّل صوتي بعد، وكنت أستقبل كل نص جديد بحماسة كأنه النص الأعظم. استمرت هذه الحالة لوقت ليس طويل إلى أن اكتشفت أسلوبي الخاص الذي كونته من قراءاتي الأولى، وبدأت تتشكل ملامح هذا الأسلوب، حتى أصبح صورة أدبية لشخصيتي وطباعي وشعوري بموقعي في العالم، وأصبحت عندي القدرة على التمييز بين صوتي وبين صدى صوت كاتب آخر تأثرت به. وكما تتطلب الكتابة الصادقة أسلوبًا فريدًا معبرا عن جوهر الكاتب، فإن أسلوب الكاتب الفريد يأبى الموضوع الخارج عن شخصيته.
  
ليس في النص القصير الذي أنجزته ما يعيبه فنيا، على الأقل كمسودة أولى (رغم أني أجريت قليل من التعديلات مع ذلك). وربما لو سارت القصة على هذا النحو لكانت مقبولة إلى حد كبير من الناحية الفنية أو الشعبية. لكنها تفتقر إلى العنصر الهام وهو أن تكون صوتي الخاص- مرآة تجربتي، لا مجرد تأريخ لسيرة كل ما يربطني بها هو الاسم السادس من اسمي. وهذا العنصر شديد الخصوصية بين الكاتب ونصه وإن لم يشعر القارئ بحضور أو غياب هذا العنصر فإن الكاتب لا بد يدركه.

ما الذي يجعل قاص يشعر بالاغتراب بإزاء حكاية اكتملت عناصرها الماتعة، ولا تنتظر غير مصوّر ينقل تفاصيلها إلى العالم؟ وهل كان لنجيب محفوظ أن يقف عاجزا مثلي أمام هذه الحكايات المجانية ويسلّم قلمه لهذا العجز؟

على الأرجح أنه لن يستسلم بل سوف يشتعل فتيل الكتابة عنده أيضا مدفوعا بهذه الملاحم الإنسانية على مر الزمان وكلها تتقاطع مع نزعات نجيب محفوظ إلى البحث عن معنى للحياة في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة التي تشكل لبنات أساسية في حركة المجتمع - ممثلا في قريتنا الفقيرة وهجرة أبنائها الأوائل إلى القاهرة طلبا لما افتقدوه في القرية.
والمؤكد أنه لن يكتفي بأن يكون مصورا أو مؤرخا أو ناقلا لأحداث جرت في الواقع، بل يستلهم منها ما يؤجج أسئلته ويبني من تفاصيلها شواهقه الروائية التي تفرد لأسئلته الفلسفية الكبرى حكاياته الخاصة.

يظهر أن متعة الحدث ليست هي كل ما يجتذب النص الأدبي الأصيل، ولكن هذه الأصالة ليس لها منبع آخر غير جوهر الفنان، وليس لنا إلا أن نأمل أن يتقاطع الحدث مع جوهر الفنان نابشا عن سر من أسرار هذا الجوهر- كاشفا له. ناهيك بعد كل هذا عن تعريف محدد للحدث الممتع، ولكن للتبسيط، دعنا نفترض أننا جميعا نتشارك في تعريف مشترك للحدث أو القصة الممتعة.

عندما أشاهد تسجيلات لنجيب محفوظ وهو يحاور ويستمع متوسطا أصدقائه ومحبيه ومريديه، تدهشني هذه الطاقة الاجتماعية والحضور الساحر لشخصيته وكاريزمته. في قاموسي المبسط عن أنواع الشخصيات، أُسمي هذه "شخصية اجتماعية"، وهي شخصية تستأنس بالناس ويستأنسون به، تظهر طاقاتها الطبيعية بينهم بدون كلفة.
سوف يكون من المستغرب أن شخصية كهذه تكتب في لون آخر غير اللون الاجتماعي/الواقعي، وهذا يرجعني إلى ما كتبته آنفا حول شبهية أسلوب الكاتب بشخصيته.
كانت طفولة نجيب محفوظ تُبشر بشخصية اجتماعية، فقد تهيأ لها منذ اكتشافه شغفه بلعب الكرة حتى أصبح من روادها، وهي لعبة تتطلب نوعا من الحضور والتأثير الاجتماعي.

على العكس من تلك التجربة، فأنا لما أكن أجيد لعب كرة القدم، وكانت واحدة من أسباب لجوئي للعزلة بينما يلعب زملائي في المدرسة. شكلت هذه التجربة مع غيرها شخصيتي المحبة للعزلة، وعندما أُريد لي أن أمارس هواية الكتابة، كانت الكتابة الاجتماعية أبعد ما تكون عن شخصيتي، وتجربتها كانت محض اصطناع، ووجدت نفسي من تلقائها تذهب إلى الفانتازيا أو الواقعية السحرية، حتى قبل أن أعرف أن ما أكتبه يسمونه واقعية سحرية، حيث أنتشل نفسي من الواقع إلى عوالم خيالية مسموح لي فيها أن أصوغها كما أريد، وبقوانين جديدة.

يتفق ذلك الاستنتاج مع ما أورده الأستاذ محمد شعير في كتابه حول تأثير الطفولة على تكوين الشخصية: 
"استعار عالم النفس الشهير سيجموند فرويد من الشاعر الإنجليزي وليم وردزورث مقولته: «الطفل أبو الرجل».. لتأكيد أن السنوات الخمس الأولى من عمر أي إنسان هي التي تحدد مسار شخصيته في المستقبل"¹

أما عن حكايات آل شواف، فربما أنا بحاجة للبحث عن قالب آخر غير الذي افترضته لها، فهو لا شك ليس القالب الاجتماعي الواقعي الذي لا يناسبني وكذلك ليس الواقعية السحرية التي تنزع من الواقع إلى التخليق الجديد فيضيع أصل الحكايات. لكن سوف يشغلني البحث عن ذلك القالب، وليلتقِ فيه تشوقي للحكاية مكتوبةً، وفخر عائلتي بها، ولأعود لأبي وأحثه على مزيد من الحكايات.

----

محمد أحمد الشواف
القاهرة
نوفمبر ٢٠٢٤



حكايات آل شواف

يحكي أبي حكايات عن جدي الأكبر- الشواف، وعن رحلته الأسطورية التي انتهت بميلاد قريتنا -قرية الشوافين. وحكايات عن الأبناء والأحفاد، وقصة انقسام...