الصفحات

الخميس، 13 ديسمبر 2012

مسير (خَوْفٌ. حُلْمٌ. مَوْتْ )

خَوْفٌ. حُلْمٌ. مَوْتْ



     كنت أعدو هارباً, صدرى يدفع هواءاً ساخناً كالصهد, عيناى كرتان من اللهب, أبصرت أمامى أعداء لا قبل لى بهم, فدقّ قلبى كدفوف الحرب, فكرت فى الرجوع إلى حيث أتيت, لكن قلبى معى أينما كنت, فخفت أن يتبعنى الأعداء, وجهى ويداى يتصببان دماً مغليّاً , قدماى تدق بشراسة على الأرض فكانت ترد بعنف على رأسى كالمطرقة, فتدفعنى دفعاً, أخذتنى نشوة عَدْوِ الهروب إلى المجهول كأن ساقىّ تدلانى على طريق لا أعرفه.. قد يكون هناك عند نهاية الأفق مكانا أتظلل به.. قد أصل إليه, فاللهب يسيّر الكون فكيف لا يسيرنى !
كانت السماء قاتمة لا تساير جسدى المشتعل , حتى ظننتها لا تعبأ بى , لكنى آمنت... آمنت أنها تحمل لى النعيم عند نهاية الأفق. كانت أفكار كثيرة تحوم حول رأسى التى كانت تشكو من حرّ اللهب, لم أكن أقود عقلى, بل كان هو يقودنى.. تركت له دفة القيادة, عرضت عليه البقاء هناك ويترك لى الأفق, لكنه أبى.. فحملت همّاً على همّ... عقلٌ وقلب,, لا طاقة لى بهم.. لاطاقة لى.

كان العَدْو طَويلاً مُنْهِكَاً
لَكِن الإيمانِ بِقَتَامَةِ السّماءِ مَنَحَنى لَهيبَا عَلى الّلهَبِ..
خِفْت أَنْ أَكون ضَلَلْتَ الطّريقَ
فَكّرْت أَنْ أَسْتَريحَ بِظِلٍ عَريضٍ
لا أَعْرِف لِمَنْ, وَلَم أَكُنْ أَهْتَم..
نِمْتُ, وتَمَنّيْتُ أَنْ يَطولَ النّوْمُ.
تَمَنّيْتُ أَنْ يَكون مَوْتاً فى صورَةِ نَوْمِ..

كان هناك حلماً, تعقبته, عرفت من فيه:
 (كان خبث الدنيا فى وجهه الذى لم أره لكنى رأيت ظهره. كان يقود العربة التى جلست فيها بجوار الرجل المسن والسيدة العجوز, كان الطريق طويلاً يبدو أن لا نهاية له, بدأ بشعلتين تضيء جانبيه فامتد بساط طويل من الضوء بدت عليه العربة كقطرة من الشمع السائل تهبط منزلقة على عمود طويل من الشمع إلى حيث السكون فى ظله الدائم. كنا نسوق أمامنا ظل العربة الذى كان يتسع كلما ابتعدنا حتى تعاظم ولم يقو على قهر الليل فصار ليلاً بهيمياً يغطى كل شيء, وانسلخ من أمه العربة بل التهمها التهاماً. دخلنا فى جوف الظلام المكفهر, ولم نشعر سوى بأنفاسنا الحارة المرتعشة, لم يتكلم أحد فقد كان الليل مهيباً يمنحنا الصمت المقدس .. ادعى ذلك السائق بخبثه أنه سينزل للحصول على مشروبه فنزل وترك العربة تسير وحدها وصاح من بعيد: "سآتى ..لن أتأخر".. ثم احتضنه الليل وذاب فيه, كأنه على موعد!
لم يصدقنى العجوزان أنه خبيث, قال العجوز: لا تقل هذا يابنى, أنت لم تر وجهه حتى!
صحت: إن وجهه خبيث لا أشك.. ثم فجأة صرخت العجوز, فنظرت أمامى , إذ به الموت نقترب منه.. فتصلبت نظرتى نحوه, كان جالساً ينظر إلىّ مبتسماً فى ردائه الرمادى, يداه مبتلتان بندى الفجر السرمدى. عيناه تحمل علم خفايا صدرى, فأردت أن أعرف نفسى من عينيه, سحرنى... تمنيت لو يتقبلنى بين يديه, تمعنت النظر, فكأنه كائن عجائبى أردت أن أحط به علما. لم يمنحنى علمه بل منحنى نفسه, عرفت أنه ذو الكرم.. رحبت به ... ورحب بى..احتضننى داخل ردائه الرمادى حتى ظننته الليل.. ثم.. ثم كان ليل ! )
استيقظت من النوم, كان حلماً كالدهر, فوجدت عجوزاً يرقد بجوارى الأيمن, وسيدة فى مثل عمره ترقد بالجوار الأيسر.. صرخت: أيها العجوزان , استيقظا.. من أنتما.. وأين نحن.. ؟؟
استيقظ العجوز وقال: صِه.. لا توقظها.. لقد أخبرتنى برغبتها فى النوم العميق !
- لكن أين نحن ؟
-استلقى على جنبه الأيمن وهو ينظر مخترقاً الفضاء الملاصق لجنبى.. نظرت إلى حيث ينظر, فوجدتنى فى شرفة عظيمة بلا أسوار وبلا عمد, حولنا كون من الليل, تاهت فيه عيناى, وشعرت أنى ليل . نظرت له بعينين تحملان أسطورة من العجب.. فلما رآهما, قال مجيبا الألغاز التى امتزجت بقطرة من الدمع سقطت من مؤقتى: الموت!
تذكرت السماء, فرفعت رأسى لأعلى, فوجدتها السماء... قاتمة !
 * * * * *

الخميس، 15 نوفمبر 2012

المُعلّبون

    خرج من عند صديقه يلعن الراقصة التى ضاجعها الرئيس ــ رئيس الحى أو الشركة – لا يتذكر, وكلما تذكر تلك القصة التى كان يرويها صديقه بتفاصيلها العاهرة وقد أعار حواسه إلى لسانه؛ فقد كانت عيناه فى الغرفة الحمراء, ولسانه يقطر رغبة, وأذنه تطرب لآهات الجنس, كلما تذكرها تمنى أن يكون رئيسا. خرج وهو يعيد إلى حواسه تلك المشاهد, فيبدو كأنه هادئا يفكر بعمق, ومع ذلك فقد هاجت بداخله ثورة حيوانية, ثار لها أيره يريد أن يحطم هذا الجدار الأزرق القاتم الذى صنعه البشر منذ المعصية الأولى.
  مر على مبنى متهالك بالكاد يستطيع أن ينتصب ليثبت للعيان أنه مبنى, تجاهله وسار, بينما دخله رجل, شعر رأسه يشبه أنقاض منزل لم يبق منه سوى أسياخ الحديد الصدئة, وجهه أسود شاحب بفعل السجائر, ملابسه لا تنتمى للحاضر بأى حال, كأنه اكتراها من جندى أسير من الحرب العالمية الأولى, يحمل فى يده أوراق وفى فمه سيجارة رخيصة, وفى ذيله دخل شاب يتحسس نظارته السميكة ليستعد للدخول الرسمى, كان يرتدى قميصا مقلما وبنطال من القماش, كان هزيلا حتى ليخيل للناظر أنه ميّت يدخل قبره بقدميه, كان يشبه الرجل الموسوم بالموت صاحب همنجواى* , فى يده ملف ممتلئ بالأوراق وكتاب, وحينما اكتمل عددهم- ستة أو سبعة رجال- مابين الشاب إلى الكهل داخل قاعة فى الطابق الأرضى تشبه مخزن لم يعد يصلح للتخزين, أغلقوا الباب وصارت القاعة مرتعا لأنفاسهم ودخان سجائرهم وصدى صوتهم, جلسوا على كراسى خشبية كتلك التى توجد فى مقاهى الحارات الفقيرة المنقوش عليها صورة حتشبسوت, وأخذ ثلاثة من الكهول يترأسون الجلسة على منضدة متهالكة, ولما أسندوا أذرعتهم إليها مالت كأنها على وشك السقوط, أسرع أحدهم ووضع حجرا,  كان ملقيا بجوار الجدار, تحت عارضة المنضدة, فارتكزت. وبادر رئيس الجلسة:
- أشكر حضوركم الكريم, ولو أننى كنت أتمنى أن يكون العدد أكبر , لكن مشيئة الله.. بسم الله أبدأ المناقشة..
ثم استطرد قائلا:
- قد قرأتم على ما أظن قصة الأستاذ نادر, وبالمناسبة حتى نتعرف على هذا المبدع فهو خريج كلية تجارة سنة 1987 له أكثر من مجموعة قصصية وديوان شعرى للأطفال وقد نشرت له أكثر من قصة فى بعض الدوريات الثقافية فليتفضل الأستاذ نادر بإلقاء الضوء على الموضوع فى قصته "جريمة على عتبة الباب".
بدأ الأستاذ نادر فى التحدث بعدما نكت عقب السيجارة تحت قدمه اليسرى :
-         فى رأيي أن هذه القصة سيكون لها شأن عظيم, فمعالجة قضية كهذه ليست بالأمر الهين . فى هذه القصة يخرج كريم –البطل- عن طوع أبيه من أجل ملذاته وإرضاء عشيقته ثم تنتهى بموت أبيه حزنا عليه..
وبينما يسهب فى الشرح, كان أحدهم يجلس فى الخلف يتثائب, حتى ملأ ثغره الواسع وجهه, وعيناه الدامعتان تنظران إلى الأستاذ نادر, وكان ذراعه المتدلى بجانبه الأيمن ملتف بأصابعه حول هاتفه المحمول.. وفى تلك اللحظة كان سامح يريد التخلص من قبضة الراقصة, فخرج إلى خاله صاحب المزاج العالى, الذى دائما مايجلس فى مقهى (الدراويش) مع صحبته أصحاب الأمزجة العالية, وما أن وصل هناك وألقى السلام وخص خاله بالتحية الدافئة, جلس بجواره يستمع إليهم, والظلام يغلف المقهى التى تبدو مهجورة لا يضيئها سوى مصباح باهت متدلى من أعلى الجدار كأنه يشكو لأحدهم أنه يتحمل إضاءة هذا المكان المهجور وحده! كان حجر الشيشة  يخبو ويشتد فيخبو ويشتد على إثره الضوء الساقط على وجوههم, تحدث أحدهم:
-         ثم ماذا, ثم ماذا بعد الثورة, أين العيشة الهنية, أين الأموال المنهوبة, أين العدالة, حتى زوجتى اللعينة مازالت تنهبنى ولا أقدر أصدها, فهى تعلم أنى أهوى الحشيش أكثر منها .
قهقه وهو يسحب نفسا عميقا من شيشة المزاج العالى, كما يطلقون عليها, وهو مغمض العينين وبدا أنه لم يكن قد قال شيئا وأنه ظل يدخن منذ أمد بعيد !
أما الخال, فقد رأى أن المصريين لن ينعدل حالهم إلا إذا حكمهم رجل مثل عبد الناصر. فلما رأى سامح أن الحوار يسير حيث السياسة قام بعدما استأذن من خاله, فهو لا يكره فى حياته شيئا أكثر من السياسة.
فى تلك اللحظة كان الأستاذ نادر قد أنهى افتتاحيته, وأخذ الأعضاء يناقشونه حول القصة عارضين وجهات نظرهم
قال الشاب الهزيل وهو يشيح بيديه  :
-         قصتك جميلة أستاذ نادر, وقد أُعجبت بها أيما الإعجاب, دام إبداعك حقا, ودام لنا قلمك الرشيق.. لكنى وددت الاستفسار عن الجزئية الخاصة بهروب البطل من أبيه, فقد كانت اللغة غريبة إلى حد ما, ووجدت اختلاف حاد فى الأسلوب بينها وماقبلها...! ثم تحسس نظارته .
رد عليه الأستاذ نادر فى تملق, وقد نال منه الزهو وهو يبتسم إليه ابتسامة جافة:
- أشكرك يابنى.. لكن المتأمل يرى أن الأسلوب...
وأثناء استطراده كان سامح قد وصل البيت, ودخل غرفته, أغلقها ثم أظلمها لتساير روحه المظلمة؛ لم يكن على استعداد لرؤية أى نور كان يسير ببطء شديد مطرق الرأس, أفكاره تزيد وجهه شحوبا قد غيمت عليه سحابة مكفهرة من الحزن والكآبة والملل...
فتح جهاز الكمبيوتر, وفى لحظات التحميل كانت الراقصة تهجع عارية فى عقله الذى سقط من رأسه وسكن أيره, عيناه أسيرتان لا يملك قيادها, ولما انتهى التحميل تصفح الانترنت قليلا, ولم يجد مفرا من البحث عن الراقصة, فكر أنه إن وجدها فإنه سيتخلص من قبضتها ويستريح.
فى هذه الأثناء كان الأستاذ حامد قد ألقى قصيدته النثرية التى يتحدث فيها عن الفتاة التى يتخيل أنه يهيم بها كان يشبهها بزهرة بيضاء فى نقاءها ورقتها, وبحلم لم يعشه. كان منتشى بكلماته وهو يلوح بيده, يبتسم بهدوء عند نهاية كل بيت, ويبدأ البيت التالى بصوت زاعق أكثر جدية, ثم يبتسم بهدوء عند نهايته, ولما انتهى وضع راحته اليسرى على صدره وهو يحييهم بتواضع مصطنع, صفق الحضور بخمول فى انتظار لحظة الرحيل حتى تردد صدى مزعج لتصفيقهم, كان الرجل الجالس فى الخلف قد غلبه النعاس وسقط هاتفه على الأرض. لم تمر دقائق حتى رحلوا وأظلمت القاعة وخلت من أنفاسهم إلا من رائحة نيكوتين السجائر, وكان سامح خارجا من دورة المياه بخمول شديد مطرق الرأس, وعلى وجهه كانت السحابة قد أمطرت مطرا أسودا زادت من حدة كآبته وحزنه, وكان خاله يقهقه مع صحبته, والحشيش يزيدهم سعادة وانتشاء, ونسيانا, والسماء ساكنة لم تتغير, لا تأبه بأحوال كوكب النمل, القمر ينتظر ليسلم عهدته للشمس ثم تأتى الشمس لتسلم عهدتها للقمر, واليالى تشبه بعضها كأنها ليلة واحدة تكرر نفسها !


 ****





*الرجل الموسوم بالموت: إرنست والش صديق  لإرنست همنجواى, فى رواية "وليمة متنقلة"

الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

جنة عزازيل

آه يا أوكتافيا، لو أنى أعلم من الغيب خباياه، لما حدث ماحدث، ولكن ماذا حدث؟! هل أخطأت، هل أخطأت حين اعترفت لها أنى راهب مسيحى، هل أخطأت حين آثرت الاعتراف على الخداع. وهل أحبتنى حقا؟! أم كانت تلك غوايات عزازيل التى جمعتنا فى مضجع واحد ننسج بشهواتنا خطايا لاتُغتفر... هل أحبتنى حقا عندما لثمتنى عند الغار المتكوم عند شاطئ البحر، ذلك البحر الذى اعتقدت أن إلهه بعثنى إليها!!

يالسخف الوثنيين حقا!

هل أحبتنى حقا عندما قالت أنها تنتظرنى منذ سنتين كما أخبرتها العرافة الوثنية قبل أن تموت!

ولكن إن كان كل هذا حبا، فلماذا فعلت بى تلك الفعلة عندما عرفت أنى مسيحى، أيُعقل بعد كل هذا العشق أن تطردنى من جنتها- جنة عزازيل- وتهيننى بإهانة لم أُهان بها من قبل ولا من بعد!

أم أنه طبع النساء المتقلب، وهل التقلب يجرى على العشق؛ هل تعشق يوما وتكره يوما آخر، أيُسمى ذلك حبا!

أعترف أنى أخطأت حين سألتها إن كان سيدها الصقلى ينسج مما ننسجه سويا فى أحضان الليل البهيم على أكف غوايات عزازيل.

أخطأت فى تقدير هذا الرجل وأخطأت فى حقك يا أوكتافيا الحبيبة حينما حكمت عليكِ بهذا الحكم القاسى.

لكنى لم أكن أعرف بعد أنه رجل تتعلق روحه بشيخوخته، ولم أكن أعرف أنه يعاملك كابنة له لا خادمة عنده.

فجمالك يا أوكتافيا لا يُقاوم، ألست أنا الراهب المؤمن انصعت لشهوتى بفعل جمالك الجامح.. آه يا أوكتافيا، يا لجرأتك فى تلك الليالى!

وهل يفيد الندم الآن بعد ما رأته عيناى فى ذلك اليوم المشؤوم الذى سُحلت فيه العالمة الجميلة هيباتيا. يا إلهى بأى ذنب قتلت هيباتيا، ألأنها وثنية!!

وهل يشفع هذا للرهبان القتلة- نفس الرهبان الذين قتلوا أوكتافيا وهى تدافع عن هيباتيا.

هل ستشفع لهم يا إلهى قتل هيباتيا وأوكتافيا لأنهما وثنيتين، وهما أرق وألطف نساء رأيتهما فى حياتى التعيسة!

أما علمتنا أن نحب أعداءنا بقدر مايكرهوننا؟!

آه لذاك الزمن، آه لذكرياتى التى تعصف بعقلى عصفا.. أكانت تلك جنة عزازيل أم جهنم الرب؟!


******

السبت، 27 أكتوبر 2012

قصة مع كتاب



مررت فى تلك الليلة على منفذ هيئة الكتاب, وأخذت أسير وعينى تقودنى إلى جديد الكتب بين الأرفف وجنبات المنفذ. لا جديد كله قد رأيته بالأمس.. وأثناء رحيلى مررت بعمود من الكتب لم أكن رأيته من قبل توقفت والتقطت كتاب فكان "حضارة العرب" لجوستاف لوبون.. حينها انفصلت عن العالم وتعرقت أناملى وأنا أقلب هذا الكتاب وعيناى ملتصقة بالصفحات .. فإن مثل هذه الكتب الجيدة تخدر حواسى لتبقى على العينين فقط.. قد يطرق أحدهم باب عالمى فأصحو مستيقظا كأنى فى حلم.. نعم هو جنون.. 
ولما تأكد لدى أننى ممسك بكتاب ثمين.. بتاريخ العرب والمسلمين بشهادة أصدق المستشرقين وأعدلهم.. لم يكن حائلا سوى دفع قيمة الكتاب لاصطحابه معى.. نظرت إلى الغلاف الخلفى.. فكان سعره عاليا .. ونحن فى نهاية الأسبوع والمفترض أنى سأعود إلى بلدتى بعد غد.. كان واضحا أن الإقبال على الكتاب ملحوظا... وليس بمستبعد أن ينفذ! أصابتنى تلك الفكرة بالإحباط الشديد.. وماهو أقسى من ذلك أن ترتبط بهذا الكتاب للحظات قليلة وتنفصل به عن العالم, لدرجة أنه صار جزء من تفكيرى.. شعرت أنه ملكى وقد سُلب منى !
لكن لا مفر من الرحيل . رحلت وصورته وبعض الكلمات التى التقطتها ملتصقة بعقلى.. أصبت فى تلك الليلة بإحباط شديد, حتى جاء الصباح, وكنت فى الجامعة , ولا زالت أفكر فيه وفى طريقة لشراءه... 
كان وقت الرِست. حينما هاتفنى أحدهم:
- محمد معايا ؟
- أيوه . مين حضرتك ؟
- أنا أستاذ أحمد من شئون الطلبة ؟ ممكن تيجى عندنا فى الشئون لاستلام الجايزة.. قصة حضرتك فازت بالمركز الثانى على الجامعة !!

أول ماخطر على بالى حينها هو الكتاب , وبعد نصف ساعة تقريبا كنت قد اشتريت الكتاب... :))

العجيب أننى لم أقرأه حتى الآن وبعد ستة أشهر من شراءه :) .. فإن وقته لم يحن بعد!

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

أصداء من عالم الوحدة: الثعابين الثلاثة

(3)

سمعت صوت "تك..تك..تك.." عرفت أنه صوت عقارب ساعة, لم أكن أعرف أن هناك ساعة فى الحجرة, تلفت حولى فوجدتها ملقية على الأرض بجوار الحائط, كانت عفرة قديمة لكنها تعمل بشكل جيد, كانت العاشرة والنصف وخمس دقائق. شعرت براحة غريبة لما عرفت الوقت ومع ذلك لم أكن أعرف إن كانت صباحا أو مساءا, فكرت أنه يجب أن أوقظ الرجل لسبب ما:
- يا رجل .. استيقظ إنها العاشرة والنصف وخمس دقائق
لم يسمعنى وكان يغط, فناديت مرة أخرى:
-  قم يارجل لقد تأخرنا.
تمغط وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة, ثم قال:
- ماذا؟ كم الوقت يعنى؟
- العاشرة والنصف وخمس دقائق
- وعلى ماذا تأخرنا ؟!
-  لا أعرف!
فصاح فىّ غاضبا:
-  يا رجل نحن عاطلون, لاعمل لدينا وهذه إجازة للنوم العميق لى ولأحلامك الغريبة. هلا تركتنا نعمل !
-  لقد مللت الأحلام
-  ابحث عن عمل آخر !
لم أكن أعرف عمل آخر , ولست متأكدا إن كان لى عمل سابقا أم لا ! لم أقتنع بأن الأحلام هى عملى, فكرت أن أقنعه بذلك لكنى فضلت الصمت, فنام و غط مرة أخرى .
أسندت ظهرى إلى الفراش وأخذت أتأمل نفسى, نظرت إلى قدمى؛ كانت أظافرى طويلة متسخة, أخذت أحركها وأنا أمشط لحيتى الطويلة, فكنت أشعر بالراحة . سمعت دقات قلبى بوضوح كأنه يهمس فى أذنى فانزعجت لذلك وفكرت أن دقات قلبى وتكات الساعة تتآمران علىّ, حاولت أن أقوم وأكسر الساعة ثم أعود لأنام, لكنى لا زلت أعجز عن النهوض.
سمعت دقة عالية طغت على صوت الساعة, أقنعت نفسى أنها هلوسة أو سوس ينخر فى الخشب وبعد قليل سمعت نفس الدقة, عرفت أن أحدهم يطرق الباب, صحت:
-  يارجل.. يارجل, أحدهم يطرق الباب
تمغط ثم صاح:
- ماذا؟ .. حقا!
ثم هرع نحو الباب وتوقف أمامه, وأخذ يتحدث إلى الطارق:
-  نعم أيها الطيبون, نحن هنا منذ زمن بعيد, نريد أن نخرج, ألا ترون ذلك ؟!
رد الطارق:
- هل هنا السيدة صاحبة الثعابين الثلاثة ؟
-  لا, لايوجد سيدات هنا, أنا هنا مع الرجل الطيب, إنه عاجز لا يستطيع النهوض لكن أصابع قدميه تتحرك بشكل رائع, فقط نريد أن نخرج ونأكل .
- إن جاءت السيدة صاحبة الثعابين الثلاثة, فأخبروها بأن الثعابين لدينا .
- سنخبرها أيها النبيل, افتح الباب حتى تجيء عندنا ونخبرها.
صمت الطارق وبدا أنه رحل, فصاح الرجل من أمام الباب:
- يارجل لا ترحل .. لا ترحل أرجوك.
ثم سقط على الأرض وهو يبكى بكاءا مكظوما, طفرت عيناه بالدموع, قلت وقد انفطر قلبى لحاله:
- ستبكينى يارجل
لم أتمالك نفسى فأجهشت بالبكاء حتى اخضلت لحيتى بالدموع. قلت له بصوت متحشرج غصّ بالدمع:
- عد أيها الرجل, ونم كما تشاء, وأنا أيضا سأظل أحلم دائما.
قام وهو يمسح دموعه عائدا إلى السرير ولما استلقى سقطت حشية السرير التى كانت تحملها ثلاثة ألواح خشبية فقط, أردت الاطمئنان عليه:
- هل أنت بخير يارجل.
لم يرد على, فقلت:
- نم بكل خير أيها الطيب.
لم أجد شيء أفعله ففكرت, فوجدت نفسى أبكى. وضعت رأسى على الوسادة ثم نمت..
كنت نائما لما أحسست بشيء ما يلتف حول قدمى ولما كشفت عن ساقى الغطاء رأيت ثعبانا أبيض ينظر إلىّ بنوع من الاستجداء زحف أمامى كأنه يدعونى أن أتبعه..
سرت خلفه وأنا مفتون ببياضه الناصع كالثلج لم أرَ لجماله مخلوق من قبل, توقف تحت شجرة تفاح وارفة عتيقة, نظر إلىّ بعينيه الزرقاويتين ورحل حتى اختفى. فهمت أن على البقاء هنا.
راقت لى ثمار التفاح المتدلية من أغصان الشجرة , كانت تحمل كل ألوان التفاح؛ الأحمر والأخضر والأصفر.. أخذت آكل منها بنهم, لم أكن لأشبع منها, لولا أن تراءى لى فى الأفق البعيد تحت السحاب الأبيض امرأة عارية بضة غيداء شعرها شلال أسود يغطى نهديها العفيين مطهمة الجمال لم أرَ له مثيل اندفعت نحوها بهيام عاشق مجنون, كلما ظننت أنى أقترب منها ابتعدت هى بأميال كأنها سراب حتى خارت قواى فسقطت على الأرض ولم أعد أراها فتحاملت على النهوض لأبحث عنها. كنت أجر ساقى المنهكة ولا أفكر فى شيء سواها حتى وصلت نهاية الأفق..
فناديت بأعلى صوتى:
-  أيتها الفاتنة... أرينى وجهك ثم افعلى بى ما تشاءين.
سمعت صوتا عذبا كخرير الماء :
- اقتلك ؟!
- ولماذا تقتلينى وأنا أعشقك ؟!
- هو العشق.. يقتل
- اقتلينى إذا.. فقد عشقت
-  لن ترانى حتى تجد ثعبانين
- وأين أجدهما ؟!
رحل صوتها, وتركت لى حيرة لاقبل لى بها, كنت عاجزا؛ كيف لى بثعبانين فى هذا الفراغ الشاسع الذى لا زمان له ولا مكان, عدت إلى شجرة التفاح وحيرتى تزداد حتى كدت أنسى أنى أبحث عن موتى لا عن ثعبانين !
قطفت ثمرة تفاح أحمر ولما قربتها من فمى اعتصرت فى قبضتى دما ثم سقطت أغصان الشجرة وتحولت إلى ثعابين زحفت مبتعدة عن الشجرة فملأت المكان حولى, أصابتنى الدهشة للوهلة الأولى لكنى لم أدعها تتملكنى دون أن آخذ ثعبانين. أمسكت اثنين وسرت بهما إلى نهاية الأفق, ولما انتهيت ناديت:
- يافاتنة السحاب, قد أتيتك بالثعبانين.. أرينى وجهك, ثم اقتلينى!
علا فحيح الثعابين وهى تتلوى بين يدى, صرخت وأنا أرفع يدى نحو السماء والثعبانين مرفوعة الهامة تلتقط رائحة الهواء بلسانيهما.. صرخت وذراعى يقطر دما بعدما غرس فيه الثعبان نابه ليروى دمى سما, لم أدرك وأنا أسقط وجفونى تنسدل على الأفق أن العشق مر, جثوت على ركبتى وأنا أرفع يدى نحو السحاب الذى كان يظللها, بدا لى كأنه كان حلما. حينها سقطت من يدى الثعابين وفاحا بصوت أشبه بصوت دفوف الانتصار, وحملا حشاشتى على لسانيهما الورديين . ولما سقطت كنت قد وفيت بوعدى. فاسترحت !
***
الصدى الأول:

الاثنين، 15 أكتوبر 2012

أصداء من عالم الوحدة: نصف حُلْم

(2)


  أيتها الذكريات الأليمات ألا تتساقطين من ذهنى, أما كفاكِ عشر سنوات من النوم.
 أفقت على غطيط الرجل الذى ظل نائما طوال هذه الفترة مثلى.
أسندت ظهرى إلى الفراش وأنا أنظر إلى حجرتى كأنى أراها لأول مرة, أتأمل العناكب التى تسير بطمأنية فى حركة تثير الرتابة والملل, والحواف الصدئة , التى كانت تزين فى يوم ما لا أعرفه, نافذة تبسط جدران الغرفة لموكب الشمس أو تحتضن القمر فى الليالى الحالمة أو تصافح نسمات أرسلتها جود الطبيعة . لكنها الآن صارت مبعثا للكآبة والوحدة فما أصعب أن يذكرك شيئا ما بعهد جميل لكنها فى الحقيقة شاخت وهرمت وصارت عبئا على ذاكرتنا. رأيت ذلك على الضوء الباهت للمصباح المعلق على الحائط.. ولما سعلت انتفض من جسدى تراب واستيقظ الرجل:
                              
-  يارجل, ألم أقل لك نم كثيرا !
-  لقد نمت عشر سنوات !
-  حقا! وهل نمت أنا أيضا عشر سنوات ؟!
-  نعم
تنهد الرجل:
-  أتعلم, النوم نعمة !
-  لو كان موتا لكان أفضل.
-  كلاهما عندى سيان. (ثم قال بعد صمت).. هل حقا قتلت سمكتين؟ أم أنه كان حلما ؟!
-  نعم قتلت !
تنهدت حزنا لما تذكرت أنى قتلت السمكتين. قلت للرجل:
-  أشعر بالجوع.
-  وأنا كذلك, سأقوم أبحث عن طعام.

لما قام الرجل سقط لوح خشبى من سريره السفلى, ومضى يبحث عن طعام فى الغرفة فلم يجد, وهم بالخروج لكن الباب كان موصدا ولم يستطع فتحه, ثم التفت إلىّ:
-  ها يارجل, أمازلت جائعا ؟!.. الأبواب موصدة, يبدو أنهم مازالوا يكرهونا.. ألا يموتون !
-  تعلم أيها الرجل الطيب أنى لا أستطيع النهوض, ولو كنت, لما تأخرت عن مساعدتك.
-  لا بأس عليك.. الأبواب موصدة بالأقفال, ولن نستطيع فتحها.
-  وما العمل ؟
صمت الرجل هنيهة يفكر ثم قال:
-  أطرُق الباب لعلهم يستجيبون
ثم دق بكلتا قبضتيه على الباب وهو يزعق:
-  أطعمونا, نحن جوعى.. أطعمونا..
مرت خمس دقائق أو أكثر وهو كذلك. لم يستجب أحد, ثم عاد إلى السرير مغموما وهو يتمتم:
-  قتلتكم بطونكم أيها الجوعى.
ارتمى على السرير وسقط لوح خشبى آخر:
-  هيه .. لست جائعا على كل حال !
ثم فجأة قفز من على السرير يهرع نحو الباب يحاول فتحه وهو يصيح:
-  نعم, نحن هنا, نحن جوعى.. أطعمونا!
وظل يطرق, لكن لم يرد عليه أحد.
قلت:
-  علام تطرق يارجل, لا أحد بالخارج ؟!
-  لقد طرق أحدهم الباب !
-  عد أيها الطيب... إنها هلوسات الجوع !
عاد مغموما, واستلقى على السرير, وسقط لوح خشبى آخر. قال لى:
-  أتعلم يارجل, كانت لى ابنتان تشبهان أمهما, كانتا جميلتين حقا, لا أعرف كم عمرهما الآن, كانتا تحبانى كثيرا, وأنا كذلك... لا أعرف هل ستتذكرانى الآن أم لا !

-  من يحب لا ينسى.. أنا أيضا أذكر أنه كانت لى عائلة, لا أذكر عددهم, ولا أعرف إن كانوا يحبوننى أم لا. لكنى أعرف أنهم وضعونى هنا !
-  لكنى لست جائعا !
-  ماذا ؟!
-  أقول أنى لست جائعا !
فقلت غاضبا:
-  لا أحدثك عن الجوع, أنا أتحدث عن عائلتى !
-  اعذرنى لم أنتبه لحديثك !
-  لا بأس عليك...
صمتنا قليلا نفكر كلانا فى حالنا, ثم قال:
-  هل ننام ؟!
-  أترى ذلك ؟
-  إنْ حدث شيء جديد سيوقظونا بالتأكيد.
-  حسنا.
ثم غط فى النوم سريعا كعادته, ثم فكرت أن أنام وأحلم بشيء ما يسلينى, لكنى لا أملك اختيار أحلامى, وخفت أن أحلم بأنى قاتل. حاولت أن أتذكر ابنتيه الجميلتين اللتين تحبانه, قد يكون حلمى جميل مثلهما, وهكذا نمت ...
  
كنت نائما لما أيقظتنى, كان أول ما رأيت ابتسامة رقيقة تغمرها آشعة الشمس التى تسللت من النافذة المجاورة لفراشى. ابتسمْت لها, وقلت:
-  صباح الخير حبيبتى.
-  صباح الخير يا أحلى أب, لقد نمت كثيرا.
-  حقا! يبدو أنى كنت متعبا.
-  حين تنهض وتغتسل, سيكون الإفطار جاهزا.
تركت لى ابتسامتها وخرجت من الغرفة.
كان إحساسا رائعا يغمرنى لم أشعر به من قبل, لم أرد النهوض, فضلت أن أظل فى هذا الشعور.
دخلت حاملة صينية طعام, وقالت بنبرة لوم رقيقة:
-  أبى, لم تنهض بعد !
لم أنتبه لكلماتها, كنت أتأملها وهى أمامى كأنى أخشى أن أفقدها, تأملت ملامحها؛ كان وجهها الرقيق يبعث فى قلبى رقة لا أعهدها, عيناها البنيتان تذوب فى روحى لتصب فى قلبى الحنين الأبوى الصافى, خديها المتوردان يجعلنى اسمع دقات قلبى, حنينها يشعرنى أنها أمى لا ابنتى:
-  أحبك حبيبتى.
ابتسمَت برقة, وقالت:
-  أحبك كذلك أبى, لكن لا يمكنك تناول الإفطار وأنت لم تغتسل بعد.
-  تعالى ابنتى اجلسى بجوارى.
وضعت الصينية الفضية على الطاولة, ثم جلست بجوارى. مسدت شعرها الأسود الناعم وأنا أتأمل عينيها البنيتين:
-  تشبهين أمك كثيرا.
-  يقولون أن وجهى يشبه وجه أمى, وروحى تشبه روحك.
ثم تورد خداها, وسمعت دقات قلبى:
-  نعم, هم لم يخطئوا فى هذا.
-  هناك هواء شديد يأتى من النافذة, سأغلقها.
قامت إلى النافذة ونسمات هواء تداعب شعرها الناعم وتهزه برفق, ولما همّت بإغلاق النافذة ازدادت حدة الريح الذى هب على الغرفة وثار شعرها, ولم تتمكن من إغلاق النافذة, استعملت كلتا يديها بقوة لتصد النافذة لكن الشبح الجولانى كان يترصد لها, ثم اقتحم تراب كثيف الغرفة حتى اكفهرت تماما ولم أتمكن من رؤيتها. صحت:
-  ابنتى.. ابنتى...
-  يارجل, أستظل دائما توقظنى بأحلامك.
سعلت بشدة من تراب الحلم, الذى رأيته عندما استيقظت يخرج من السرير والغطاء:
-  كان حلما جميلا, لكنه انتهى بكابوس !
-  على الأقل لم يكن كله كابوسا !
-  كيف ؟
-  حلمت بأن لى عائلة تكرهنى. كرهونى منذ أن رأيتهم حتى وضعونى هنا !
ضحكت بمرارة, ثم أخرج رأسه من تحت سريرى ملتفتا لأعلى نحوى:
-  نم يارجل ولا تعكر كوابيسى مرة أخرى..
ثم غط فى النوم, وأخذت أفكر فى نصف الحلم الجميل, حتى سمعت:
-  أنا لست جائعا !
***