(3)
سمعت صوت "تك..تك..تك.." عرفت أنه
صوت عقارب ساعة, لم أكن أعرف أن هناك ساعة فى الحجرة, تلفت حولى فوجدتها ملقية على
الأرض بجوار الحائط, كانت عفرة قديمة لكنها تعمل بشكل جيد, كانت العاشرة والنصف
وخمس دقائق. شعرت براحة غريبة لما عرفت الوقت ومع ذلك لم أكن أعرف إن كانت صباحا
أو مساءا, فكرت أنه يجب أن أوقظ الرجل لسبب ما:
- يا رجل .. استيقظ إنها العاشرة والنصف وخمس
دقائق
لم يسمعنى وكان يغط, فناديت مرة أخرى:
- قم يارجل لقد تأخرنا.
تمغط وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة, ثم قال:
- ماذا؟ كم الوقت يعنى؟
- العاشرة والنصف وخمس دقائق
- وعلى ماذا تأخرنا ؟!
- لا أعرف!
فصاح فىّ غاضبا:
- يا رجل نحن عاطلون, لاعمل لدينا وهذه
إجازة للنوم العميق لى ولأحلامك الغريبة. هلا تركتنا نعمل !
- لقد مللت الأحلام
- ابحث عن عمل آخر !
لم أكن أعرف عمل آخر , ولست متأكدا إن كان لى
عمل سابقا أم لا ! لم أقتنع بأن الأحلام هى عملى, فكرت أن أقنعه بذلك لكنى فضلت
الصمت, فنام و غط مرة أخرى .
أسندت ظهرى إلى الفراش وأخذت أتأمل نفسى,
نظرت إلى قدمى؛ كانت أظافرى طويلة متسخة, أخذت أحركها وأنا أمشط لحيتى الطويلة,
فكنت أشعر بالراحة . سمعت دقات قلبى بوضوح كأنه يهمس فى أذنى فانزعجت لذلك وفكرت
أن دقات قلبى وتكات الساعة تتآمران علىّ, حاولت أن أقوم وأكسر الساعة ثم أعود
لأنام, لكنى لا زلت أعجز عن النهوض.
سمعت دقة عالية طغت على صوت الساعة, أقنعت
نفسى أنها هلوسة أو سوس ينخر فى الخشب وبعد قليل سمعت نفس الدقة, عرفت أن أحدهم
يطرق الباب, صحت:
- يارجل.. يارجل, أحدهم يطرق الباب
تمغط ثم صاح:
- ماذا؟ .. حقا!
ثم هرع نحو الباب وتوقف أمامه, وأخذ يتحدث إلى
الطارق:
- نعم أيها الطيبون, نحن هنا منذ زمن
بعيد, نريد أن نخرج, ألا ترون ذلك ؟!
رد الطارق:
- هل هنا السيدة صاحبة الثعابين الثلاثة ؟
- لا, لايوجد سيدات هنا, أنا هنا مع
الرجل الطيب, إنه عاجز لا يستطيع النهوض لكن أصابع قدميه تتحرك بشكل رائع, فقط
نريد أن نخرج ونأكل .
- إن جاءت السيدة صاحبة الثعابين الثلاثة,
فأخبروها بأن الثعابين لدينا .
- سنخبرها أيها النبيل, افتح الباب حتى تجيء
عندنا ونخبرها.
صمت الطارق وبدا أنه رحل, فصاح الرجل من أمام
الباب:
- يارجل لا ترحل .. لا ترحل أرجوك.
ثم سقط على الأرض وهو يبكى بكاءا مكظوما,
طفرت عيناه بالدموع, قلت وقد انفطر قلبى لحاله:
- ستبكينى يارجل
لم أتمالك نفسى فأجهشت بالبكاء حتى اخضلت
لحيتى بالدموع. قلت له بصوت متحشرج غصّ بالدمع:
- عد أيها الرجل, ونم كما تشاء, وأنا أيضا
سأظل أحلم دائما.
قام وهو يمسح دموعه عائدا إلى السرير ولما
استلقى سقطت حشية السرير التى كانت تحملها ثلاثة ألواح خشبية فقط, أردت الاطمئنان
عليه:
- هل أنت بخير يارجل.
لم يرد على, فقلت:
- نم بكل خير أيها الطيب.
لم أجد شيء أفعله ففكرت, فوجدت نفسى أبكى.
وضعت رأسى على الوسادة ثم نمت..
كنت نائما لما أحسست بشيء ما يلتف حول قدمى
ولما كشفت عن ساقى الغطاء رأيت ثعبانا أبيض ينظر إلىّ بنوع من الاستجداء زحف أمامى
كأنه يدعونى أن أتبعه..
سرت خلفه وأنا مفتون ببياضه الناصع كالثلج لم
أرَ لجماله مخلوق من قبل, توقف تحت شجرة تفاح وارفة عتيقة, نظر إلىّ بعينيه
الزرقاويتين ورحل حتى اختفى. فهمت أن على البقاء هنا.
راقت لى ثمار التفاح المتدلية من أغصان
الشجرة , كانت تحمل كل ألوان التفاح؛ الأحمر والأخضر والأصفر.. أخذت آكل منها
بنهم, لم أكن لأشبع منها, لولا أن تراءى لى فى الأفق البعيد تحت السحاب الأبيض
امرأة عارية بضة غيداء شعرها شلال أسود يغطى نهديها العفيين مطهمة الجمال لم أرَ له مثيل اندفعت نحوها بهيام عاشق مجنون,
كلما ظننت أنى أقترب منها ابتعدت هى بأميال كأنها سراب حتى خارت قواى فسقطت على
الأرض ولم أعد أراها فتحاملت على النهوض لأبحث عنها. كنت أجر ساقى المنهكة ولا
أفكر فى شيء سواها حتى وصلت نهاية الأفق..
فناديت بأعلى صوتى:
- أيتها الفاتنة... أرينى وجهك ثم
افعلى بى ما تشاءين.
سمعت صوتا عذبا كخرير الماء :
- اقتلك ؟!
- ولماذا تقتلينى
وأنا أعشقك ؟!
- هو العشق.. يقتل
- اقتلينى إذا.. فقد
عشقت
- لن ترانى
حتى تجد ثعبانين
- وأين أجدهما ؟!
رحل صوتها, وتركت لى
حيرة لاقبل لى بها, كنت عاجزا؛ كيف لى بثعبانين فى هذا الفراغ الشاسع الذى لا زمان
له ولا مكان, عدت إلى شجرة التفاح وحيرتى تزداد حتى كدت أنسى أنى أبحث عن موتى لا
عن ثعبانين !
قطفت ثمرة تفاح أحمر
ولما قربتها من فمى اعتصرت فى قبضتى دما ثم سقطت أغصان الشجرة وتحولت إلى ثعابين
زحفت مبتعدة عن الشجرة فملأت المكان حولى, أصابتنى الدهشة للوهلة الأولى لكنى لم
أدعها تتملكنى دون أن آخذ ثعبانين. أمسكت اثنين وسرت بهما إلى نهاية الأفق, ولما
انتهيت ناديت:
- يافاتنة السحاب,
قد أتيتك بالثعبانين.. أرينى وجهك, ثم اقتلينى!
علا فحيح الثعابين
وهى تتلوى بين يدى, صرخت وأنا أرفع يدى نحو السماء والثعبانين مرفوعة الهامة تلتقط
رائحة الهواء بلسانيهما.. صرخت وذراعى يقطر دما بعدما غرس فيه الثعبان نابه ليروى
دمى سما, لم أدرك وأنا أسقط وجفونى تنسدل على الأفق أن العشق مر, جثوت على ركبتى
وأنا أرفع يدى نحو السحاب الذى كان يظللها, بدا لى كأنه كان حلما. حينها سقطت من
يدى الثعابين وفاحا بصوت أشبه بصوت دفوف الانتصار, وحملا حشاشتى على لسانيهما
الورديين . ولما سقطت كنت قد وفيت بوعدى. فاسترحت !
***
الصدى الأول:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.