الصفحات

الاثنين، 27 مايو 2024

من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام (يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبع البنصر ليدي اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صيني انكسر بين يديّ كأن قنبلة نووية تفجّرت بين ذراته، نزيف هائل حل أثره على كل شيء حولي. لم يصبني هلع أكثر مما أصابني من رؤية منظر تدفّق الدم.
هرعت إلى مناديل المطبخ وغطيت الجرح بكومة من المناديل كي أوقف النزيف، بينما أهيل على الجرح المناديل، لمحت زاوية تغوص إلى عمق الإصبع تشبه الزاوية التي بين عقلتين إذا انثنى إصبع. ثم بدأت أستوعب حجم الإصابة، أول ما وعيت عليه هاتفي في غرفة النوم، هرعت إليه، كان الدم يتقاطر خلفي على الأرض وعلى ملابسي، لم يتوقف حتى خنقت كل يدي بالمناديل، اتصلت بابن خالي الطبيب، كان هاتفه مغلقًا، أخي الصيدلي لم يرد، أمي كذلك- أملًا أن توصلني بأخي، كانت الفكرة الحاضرة أني ربما أفقد الوعي وأنا وحدي بالشقة، فأردت ألا أتعفن موتًا.
لجأت أخيرًا إلى أوبر لطلب رحلة إلى المستشفى. لحسن حظي قُبل الطلب من سائق قريب من موقعي.
دخلت السيارة وفي حجري كومة من المناديل تلف يدي، وتحت إبطي علبة مناديل، وعلى ملابسي لطخات من الدم. جلست بجوار السائق وأنا أمازحه لأكسر غرابة المشهد: معلش منظر غريب شويه. ليبدأ بعدها حوار لشرح ما حدث. 
في منتصف الطريق اقترح مستشفى أقرب فوافقت، وعند الاقتراب من المستشفى راجع الفكرة معللا أن الأخرى المسجلة في الرحلة قد تكون أفضل فهي أكبر، فرحبت بالاقتراح. كنت هادئا مستعينا برباطة جأش قلما احتجتها، كنت أجرب الجسارة رغم الجُرح. حقيقةً؛ لم أشعر بألم بسبب الجرح لأقاومه، لكن فكرة فقدان إصبع كانت ذات حضور أقوى، وأي سر تخفيه هذه الكومة العملاقة من المناديل، كان الألم الحقيقي على مستقبلي المهني، وعلى خططي المؤجلة.
وصلنا المستشفى بعد وقت طويل نسبيا. دخلت قسم الطوارئ في صحبة قائد أوبر الذي رفض أن يتركني، كان مشفقًا على وحدتي.
بدأ عمل الطاقم الطبي في إصبعي وهو يتلقى مني سرد تفاصيل الحادث، تم سؤالي حوالي ثلاث مرات نفس السؤال "إيه اللي حصل؟"- كل مرة من عضو مختلف. "كنت بغسل طبق فاتكسر في إيدي" - كنت أرد.
في الأول تلقاني طبيب الطوارئ الذي كشف عن الجرح لفات مناديل المطبخ، كنت أتجنب رؤية الجرح كوسيلة لتقليل الألم، لمحت في وجهه انقباضة تشبه انقباضة وجه بعد تناول نصف ليمونة. تفرست فيه طبيب لا زالت تؤثر فيه مشاهد الدم، وكان أكثر أعضاء الطاقم طيبة وليونة في التعامل. لاختبار هذا سألته بسذاجة محسوبة بعد أن شرح لي حجم الجرح: 
- يعني كويس إن أنا جيت؟
فالتفت لي بعزمٍ ليؤكد أن هذا شيء لا خلاف عليه.

حضر طبيبان آخران ليبدآ فحص الجرح، أمسكا المقصات ودار حوار خافت بينهما ووليت وجهي الناحية الأخرى. استدعيت في ذهني مشاهد الجرحى في غزة جراء حرب السابع من أكتوبر، استعنت بها لأخفف على نفسي الألم. شعرت بواجب مقاومة الألم بقدر مقاومتهم، آمنت أن ألمي لا يمكن قياسه إلى آلامهم، فهذا إصبع في نهاية الحال.
لم أشعر بألم بالفعل لكن ليس بسبب مهاراتي التي استعنت بها لتقليل الألم، ولكن لأنهم خدّروا الجرح.
الأصابع هي أداتي في العمل - "أكل عيشي في صوابعي" كما شرحت لأحدهم.
قاموا بخياطة الجرح، أُعطيت روشتة وقليل من التعليمات وموعد قادم للعرض على الطبيب.
ثم غادرت المستشفى وكان في صحبتي صديقي الذي كلمته وأخبرته بوجودي في قسم الطوارئ، كانت هذه الطريقة الوحيدة لحمل قائد أوبر على المغادرة لأرفع عنه عبء ملازمتي.

بينما أكتب هذه التدوينة مرت أربعة أيام على الحادث، أربعة أيام لم أستيقظ فيها على تحضير قهوتي في وعاء الموكا بوت مع ساندويتشات زبدة الفول السوداني بالعسل المفضلة لدي، لم أمارس الرياضة أو حتى أملك رفاهية التفكير في ممارستها، لم أطهُ وجبة الغداء التي أتفنن فيها كل يوم، لم أشتر لوازم الطعام من مركز التسوق، واعتمدت بشكل كامل على شراء الأكل جاهزًا، اتضح أن ممارسة هذه الأمور البسيطة تحمل معنى عميق للحرية.

(2)
[3 فبراير]
لا زالت أنشطتي اليومية مُعلّقة، أدخل المطبخ في حدود ضيقة، لم يعد المكان الأكثر حضورا في يومي، بالكاد أستطيع تحضير وجبة الإفطار. لم أمارس الرياضة منذ وقت طويل. توقفت عن التفكير في خطط طموحة لقضاء وقت الفراغ، لا تفكير في سفر، أو ممارسة هواية جديدة (كنت أفكر في السباحة واشتريت نظارة السباحة بالفعل)
لم أحرك الإصبع منذ الإصابة، تأكدت أن الوتر بخير، لكن على الأرجح هناك قطع في العصب الحسي، ولأستعيد الاحساس فإني بحاجة لعملية دقيقة لإصلاح القطع.
الكتابة على الكيبورد أصبحت صعبة والتحرك بين المفاتيح عملية مرهقة ومملة. كنت بدأت تعلم الكتابة السريعة منذ عام ووصلت سرعتي إلى ١٠٠ كلمة في الدقيقة حتى أصبحت الكتابة على الكيبورد عملية سلسة لا أشعر بها تقريبا. سوف أتوقف عن الكتابة السريعة إلى أن أستعيد الإحساس في الإصبع، وربما قد تدهور سرعتي إلى ذلك الحين.
عُرضت على طبيب واحد والذي استنتج أني بحاجة إلى عملية، لكن - وكما يجري العرف الشعبي، سوف أستشير المزيد من الأطباء، هناك أمل أن تتعافى الأعصاب تلقائيًا.
(3)
[27 مارس] 
ما قرأتَه بالأعلى هو شعور المُصاب بالهلع. هالتني حينها فكرة الخيوط المغروزة في جلدي لأول مرة، حتى جعلت من كل يدي مركزا للهلع، ومنعت عنها كل ألوان الحياة.
استقريت على طبيب جراح، الذي أرجى قرار العملية إلى بعد أسابيع من انتظار عودة طبيعية للإحساس في الإصبع (التئام طرفي العصب المُصاب)، لكن ذلك لم يحدث، وعليه فإن عملية للكشف عن العصب هي الطريق الوحيد للوقوف على حالة العصب.
سأعود هنا قبل العملية ربما، أو بعدها... لا أعرف.

(٤)
[٢٣ مايو]
أكتب من على سريري في الغرفة رقم ٣٢٩ بمستشفى النزهة الدولي.
التاريخ الآن بالظبط هو ٢٤ مايو الواحدة صباحا، لكنه امتداد للثالث والعشرين. آخر وقت وعيت عليه قبل دخولي في غيبوبة التخدير هو الحادية عشرة والثلث (صباحا)، حينما رأيت طبيب التخدير يحقن السائل في ظهر يدي، سألته: بنج؟... فأكد لي ذلك. فبحثت عن ساعة على أحد حوائط حجرة العمليات لأسجل وقت نهاية وعيي، وجدت ساعة معلقة على حائط أمامي، ثم اشتغل الدوار في رأسي وذيل حوار باقي بيني وبين طبيب التخدير يذوب في المخدر. 
حينما حُملت على السرير المتحرك من غرفتي إلى غرفة العمليات، أعجبني الوضع كلعبة من ألعاب الملاهي، وكنت أكتم ضحكًا كالطفل الذي يدفعه أبوه على عربة. حتى ظهر أخي مقبلا يهرول من الغرفة ليلحقني فضحكت في وجهه كأننا نعيش نكتة، كانت البهجة ضرورية لأطمس نظرات الشفقة وأنا أمر على المرضى المنتظرين في طرقات المستشفى، لكن لا أنكر أن اللعبة أعجبتني.
استقبلني طاقم الجراحة ببشاشة، بحثت بعيني عن الطبيب الجراح الذي أعرفه جيدا أكثر من هؤلاء الجدد ويعرف حالتي، كان ورائي يرتدي قفازات الجراحة، تبادلنا التحايا، أنا بقلب مضطرب وهو بنبرة هادئة. 

دبّت حركة نشيطة بين أعضاء الطاقم للتجهيز للعملية، بينما أخذ الجراح يرسم بتركيزٍ شديد الخطوط على يدي وقدمي لتحديد أماكن الجراحة.
ثم... ثم فقت في نصف وعي على سؤال ألقيته- أفكر فيه الآن كم هو قصير، ذكي، ويستطيع أن يُخبر بالكثير:
"هي العملية طولت؟"


لم أشعر بهم وهم ينقلونني من الدور السفلي (العمليات) إلى العلوي (العنبر)، لكن بالكاد شعرت بثقلي يُنقل إلى السرير في الغرفة، انتقال مفاجئ من السكون إلى الحركة، لكن الحركة تتجه نحوي بشكل حتمي لا مفر منه، مثل طاقة ضوء مفاجئة.
استغرقت العملية أكثر من ثلاث ساعات، ثلاث ساعات اقتُطعت من عمري، لا أعلم عنها شيئا مثل الثقب الأسود في نظام الكون. لا يشبه هذا العمر الضائع العمر الذي أقضيه في النوم بأي شكل، فالنوم راحة للوعي بتصديق منه، فالنوم جزء من الوعي، أما تلك الساعات الثلاث فهي انتقال وعيي من يدي إلى يد الجراح، أصبحت له الكلمة الأولى لمصيري، وقد وقّعت على الوثائق اللازمة لحصول الطبيب على هذا الحق الخاص. عندما فُقت من أثر التخدير وطالعت الروشتة التي أقرّها الجراح وجدت في أسفلها هذه الرسالة موجّهةً إليّ: "متابعة يوم الثلاثاء في العيادة"، قرأتها كأنها الأثر الوحيد الباقي من هذا الجزء المفقود من عمري، كأن في يوم الثلاثاء القادم مراسم عودة وعيي من يد الطبيب إلى يدي، في خلال الأيام الفاصلة حتى ذلك اليوم سأسجل كل أسئلتي للطبيب كي أستعيد ملكيتي على هذا الجزء المفقود من عمري وأسد الفراغات بشكل كامل.
تم ترقيع العصب المقطوع: أي أخذ جزء من أحد أعصاب القدم وتوصيل طرفي عصب الإصبع به.
ذراعي بالكامل ملفوف في أربطة من القماش، لا نريد أي حركة غير مرغوبة تؤثر على الرقعة، هذه عملية ميكروسكوبية دقيقة. وهناك لفات أقل على القدم اليمنى، القدم التي قدمت تضحية ثمينة لإصبعي، لابد أن أمتن لقدمي أكثر، أفكر في ذلك الآن وشعور بالحزن يخيّم عليّ وأنا ألمس جزء من قدمي ولا أشعر به، سأعيش بقية حياتي لا أشعر به، وحينما أموت، لن يموت هذا الجزء لأنه قد مات بالفعل. سوف أتعزى بالدرس وبالفلسفة لأقاوم فكرة غياب جزء من جسدي عني.
كل ما أفكر فيه الآن أن تمر الأيام الأولى بخير إلى أن تلتئم أطراف الرقعة العصبية في داخل إصبعي.

الأحد، 12 مايو 2024

مذكرات قط سياسي




كان عندنا قط بغيض، شرِه، لا يقدّم شيئًا مقابل إلحاحه الدائم طلبا للطعام، بل يخرشنا بمخالبه إن لم نستجب لطلباته.
ذات يوم خدعناه للدخول إلى شوال ثم قيدناه وقدناه إلى مكان بعيد لا يمكنه التعرف فيه على طريق للعودة إلى منزلنا. كانت حكاية ظريفة لكن لم أكن أمتلك الشجاعة للكتابة عنها في تويتر.
رغم ذلك تسربت الحكاية إلى مجتمع تويتر، لا أعرف كيف خرج السر ولم يكن واحد منا قد تفوه به أمام أحد، لكن على كل حال كان علينا التعامل مع سيل من الاتهامات بغياب الإنسانية عنا. لم يكن من السهل مقابلة تهمة "تشريد قط" بدعوى شراهته الزائدة وسرقته الطعام. كان الغضب غير المحكوم ينساب بشكل يصعب التعامل معه بهدوء كالهدوء الذي استعملناه ونحن نخدع القط للدخول في الشوال، ما زاد الطين بلة أن ظهر أحدهم وقال أنه إذا كنا قد أوذينا بوجود القط وشراهته، فقد كان بإمكاننا التواصل مع إحدى جمعيات رعاية الحيوان وطلب طعامه بالمجان، أو بالتواصل معه شخصيا وهو يتولى أمره. في حمى التعاطف مع القط، نال هذا الشخص إعجاب الجميع بتقديمه نموذج الإنسان مقابل الشيطان الذي مثّلناه لتكتمل صورة الشر التي وُضعنا فيها. حتى لم يكن بإمكاننا تبرير فعلتنا بأننا لم نعرف بوجود مثل هذه الجمعيات. باختصار كنا مطالبين بشكل ضمني بألا ندافع عن قرارنا، كان الغضب العام شيئًا مجبورين للانصياع له، وفكرت أنه ربما كان في زمن ما للإنسان حرية التخلص من الحيوانات غير المرغوب في وجودها في منزله، وتمنيت لو عشت هذا الزمن.
أخذت هذه الحكاية منحىً آخر تماما عندما ظهر قط جديد في منزلنا، مثل أي قط يدخل منزلنا، كان راغبا بشدة في الطعام، ونحن في البداية نستجيب بحسن نية لإطعام حيوان جائع، لكن في هذه المرة استجبنا خوفا من إثبات تهمة عداوتنا للقطط. مع كل ظهور لقط جديد تظهر مجموعة كبيرة من الداعمين لوجوده في منزلنا، مجموعة مسؤوليتها مراقبة حال القط وصحته وتعاملنا معه.

💫

لا يمكنني الاستجابة لدعوات الرفق هذه بأي شكل غير متوقع، نحن في النهاية قطط. رغم حركاتنا غير المتوقعة أحيانا، نحن لا نقدم شيئا غير متوقع في الحقيقة.
ناهيك عن أن هذه أمم متقدمة جدا، ماذا بإمكاننا أن نقدم لهم أكثر مما قدمناه للأمم الأقل تحضرًا؟ هم من يقومون بأفعال- حق- غير متوقعة، عن نفسي لم أكن أعرف بجمعيات رعاية الحيوان هذه، ربما لأني أعيش في قرية فقيرة.
جل ما أفكر فيه أن هذه أمم متقدمة فعلا، عنصر رائع من الكائنات، قدرة مذهلة على تحمل مسؤولية الآخر والدفاع عنه، في الواقع أشفق على سيدنا، وهو مطالب بالتعامل مع هذا العنصر الرائع، بإمكاننا أن نجد لقمة عيشنا في مكان جديد، لا توجد أزمة إطلاقا، أستطيع أن أؤكد لكم أن معاناة زميلنا القط وهو يُقتاد إلى خارج القرية كانت مجرد حالة هلع من مصير مجهول- القتل مثلا، لكنه سوف يجد مكانًا جديدًا آخر. نحن نؤمن بالقسمة والنصيب، لكن الأمم المتقدمة هذه تؤمن بالحق في الحياة.
كنت أود لو أستطيع تقديم امتناني لهم لكني قط في نهاية الأمر- حيوان بالمفهوم المتداول عند بعضهم، لا ينتمي لمثل هذا العنصر الرائع. يقول سيدي أنه يتمنى لو عاش في زمن كان التخلص فيه من الحيوانات غير المرغوب في وجودها في المنزل أمرا مقبولا. من وجهة نظري، هذا أمر مقبول لدي لطالما مُنحنا حرية البحث في مكان آخر.

💫 

امتلأت باحة المنزل بقطط من كل الأشكال والأعمار. أغلقنا الأبواب والنوافذ خوفا من تسللهم إلى المطبخ وإفساد طعامنا، بدا لي الأمر كما لو أنهم مُنحوا إذنًا من مجتمع تويتر لاحتلال منزلنا، لكن في قرارة نفسي أعرف أن هذا طبيعيا طالما سُلبنا حق اختيار ضيوفنا أو طردهم.
على الناحية الأخرى، استلمنا شحنات لا بأس بها من طعام القطط، رُسم عليها رموز للدعم مثل قلب أحمر بين أذني قط، طفل يعانق قط، وعبارات مثل "كل الدعم من مونتريال"، "نحبكم... جامعة ميشيغان"، "قاوموا كما قاومنا... حياة السود مهمة".
كان عليّ القيام بدور الوسيط بين هذه المجتمعات وبين مجتمع القطط في منزلنا. كنت أعرف أن طردي للقطط معناه نهايتي.

💫 

أشفق على سيدنا حقا، كما لا زلت أشعر بالامتنان تجاه هذا العنصر الرائع من البشر. لم يكن لكل هذا أن يحدث لو أُعطينا حق الدفاع عن حقوقنا، قوةً مثل قوة العنصر الرائع بالظبط، حينها كنا لنكتفي بالتعامل مع مآسينا بدلًا من الفوضى الجارية بين الأمم، أتخيل ماذا لو قام أحدهم باستلاب حق واحد من حقوق العنصر الرائع! هذا شنيع في ميزان القوى، وسيظهر حينها كم نحن مساكين بدونهم، فبدلا من رد جميلهم في مأساتهم سوف يظهر جليًّا كم نحن بحاجةٍ إليهم، لهذا نحن لا نتكلم ولا يجب علينا أن نتكلم لطالما سلبتنا الطبيعة إرادتنا، فما قيمة الامتنان إن كنا لا نستطيع رد الجميل؟ كل ما علينا فعله هو الأكل في سلام.
مياااااو! أرى شحنة من الرقائق اللذيذة القادمة من مدينة مانشستر.
برررر... بررررر.

💫 

اقترحت على أبي التخلص من القطط على طريقتنا المعهودة.
قديمًا كنت أفعل ذلك من دون طرح الموضوع وكأنه قرار مصيري، حتى أن أمي كانت تكتشف من نفسها غياب القط فأقول لها: آه... نسيت أن أخبرك، لقد أخذته بعيدا إلى القرية المجاورة. فتتمتم بعبارات لا أفهم إن كانت شفقة أو ارتياح.
أول شيء فكرت فيه هو الخروج من تويتر، فأغلقت حسابي، كنت أعتقد أن تويتر يتجسس عليّ أو أن ألجوريزم من نوع ما فيه يراقب حال القطط ويرسل إشارات إلى مجتمع تويتر بوجود خطر ما.

لأخدع القطط بالدخول إلى الشوال الضخم الذي صنعته، أخذت حفنة من الرقائق وألقيتها إلى داخل الشوال ووجهت القطط ناحيتها، نجحت الحيلة مع بعضهم لكن تكاسل قطّان وكان الشبع والتخمة مغنيانهما عن حيلتي.

💫 

كان لي أن أصرخ وأنا أُخدع إلى الدخول في الشوال وأطلق المياوات المستغيثة، علّ العنصر الرائع يأتي لإنقاذي من حيلة سيدنا، لكن ظهرت لمعة وحيٍ قططيّ، من ذلك النوع الذي لا يتوقعه البشر منّا ويضحكون له، وهي أن الطبيعة التي دفعت العنصر الرائع لتخليصنا، هي أيضا ما دفعت سيدنا للتخلص منا، بينما كان رفاقي المساكين في الشوال يصرخون ويندبون ويستغيثون، كنت أنا ألتقط آخر قطع الرقائق المانشسترية وأنا أرى الطبيعة تأخذ مجراها وسيدنا يتخلص منا. باختصار كنت أرى الطبيعة في كل ما يجري. نحن غير البشر- لم يغيرنا التاريخ، كنا قطط ولا زلنا- آلهة كنا أو حيوانات متطفلة، حتى عندما نموت، لا تجد لدينا تسميات معقدة كالتي يستعملها البشر مع موتاهم؛ سأكون قطا ميتا يوما ما، لن أكون شهيدًا مثلا. عندما أخرج من الشوال سوف أجد عالمًا جديدًا، هذا ما وعدتنا به الطبيعة دائما، وهذا ما أبقاني على هدوئي. 

كان بجواري أحد الرفاق يصرخ مستنجدًا بالعنصر الرائع، لم يلحظ قطعة رقائق تحته، جريت عليها وخطفتها، عندما اكتشف حيلتي ضيّق ما بين عينيه لتبدأ معركة ساكنة من النشيج المكتوم بيننا واستعديت لقتال عنيف، رفعت ظهري لأعلى وبيّنت أنني جاد بشأن الرقائق.

💫

لم يحدث أن جمعت كل هذا العدد من القطط في شوال واحد، كانت تتبارز للإفلات من الحبس بينما أجرّ الشوال على الأرض.
خرجت في المساء حيث تشتعل ترندات أكثر أهمية على تويتر من واقعة تسريب القطط. عند مشارف القرية المجاورة أفلتّ الشوال وانطلقت القطط في كل اتجاه، بينما ظل قط واحد يستطلع المكان ثم مشى بهدوء على جانب الطريق من الناحية اليمنى، بدا لي اختيارًا عشوائيًا.

💫

اخترت الطريق الأقل تقاطعًا مع رفاقي منعًا للاشتباك. انتهت المعركة الصامتة بداخل الشوال بأن أقعى كل منا مكانه متظاهرين بأن الموضوع قد انتهى، لكن سيظل ثأرًا موجودًا بيننا لطالما جمعنا طريق واحد.

💫

لم يبق في منزلنا غير قطّان، لم نتأذى منهما؛ كانا هادئان، سهلا الانقياد، سريعا الرضا بما نقدمه لهما من دون إفساد مطبخنا. فكرت في إعادة فتح تويتر، توقعت أن يكون منقسمًا بشأن مصير القطط، أنشأت حسابًا وهميًا، لكن لم أجد أي أثر للموضوع، بل كان مُستثارًا حول واقعة إخصاء مجموعة من الكلاب في إحدى المدن، ولافتات افتراضية تندد ب "الإبادة الجماعية لمجموعة الكلاب".
انفتح باب غرفتي بهدوء وظهر قط، انتظرت ليدخل، لكن ظل واقفا مكانه إلى أن ماء يطلب الطعام. أغلقت هاتفي ومشيت خلفه بينما هو جرى يستبقني وهو يتمسّح في ساقي. ألقيت إليه قطعًا من الدهن أمام باب المنزل، التهمها، وكان واضحًا أنه أحب طعم الدهن.

💫

قادني القدر إلى بيت سيدنا بعد مسيرة ساعات في الظلام. كنت أبحث عن الرقائق على طول الطريق، لكنها قد نفدت ودُفِنت مع برازنا. عندما تعبت من المشي اكتشفت أنني على الطريق الأكثر ألفة منذ طفولتي وتعرفت على القرية. 
التمست الطريق إلى بيت سيدنا. عندما فتحت باب الغرفة ومؤت نحوه، كنت أنتظر تربيتةً منه لكنه لم يتعرّف عليّ، عوضًا عن ذلك، فقد رمى إليّ قطع الدهن ومشى. أحببت طعم الدهن حتى أخذت ألعق أثره المتبقي على الأرضية. في هذه الأثناء ظهر قطان تقدّما سريعًا ما أن لمحاني ألعق الأرض، دار اشتباك بيننا لم أكن في استعداد له، انتهى بأن انسحبت إلى الخارج، وعزمت على الرجوع مجددا للحصول على قطع الدهن اللذيذة مهما كلفني ذلك من اشتباكات مع القطط.
أصبحت متمسكًا بجوار سيدنا أكثر، بنفس مقدار استبسالي من أجل لقمة عيشي، وبشكل ما فالأمران وجهان لذات الشيء في نفسي، وخيانة أحدهما خيانة للآخر، مثل خيانة التوازن البيئي لصالح القضاء على الجرذان مثلا. وأنا هنا أتكلم باسم الطبيعه غير مدفوع بغرائزي الشخصية لا سمح الله.

***انتهت***

[تعليق]

عند هذه النقطة لست متأكدا من القيمة الفنية لقصتي، هي إما جيدة بما فيه الكفاية لأتذكر بعد عمرٍ الرموز التي استعملتها فيها فتظل حيّةً شاخصةً بغير حاجة إلى تفسير، أو لا تكون كذلك فتختلط عليّ المعاني، فأعجز- أمام نفسي أولًا- أن أبرّر وجود هذه الرموز وتفسير حركتها. لهذا فإفصاح بسيط عن نواياي ربما ينقذ القصة من التباسٍ محتمل.
في حين أن بعض الرموز قد يسهل إسقاطها على بعض الفاعلين في عالمنا، رموز أخرى يسهل إلباسها فاعلين لم أقصد الرمز بهم، ورمز هو مجرد صورة لرمز، على ما له من قوة حضور واستقلالية في أحداث القصة، لكنهما تقاسما سمات المرموز واستقل كل منهما بهذه السمات.

هذا ليس صراع بين الخير والشر، في الحقيقة لا وجود للخير والشر في القصة- على الأقل من وجهة نظري. كل ما شغلني هو استقصاء الحقيقة التي أؤمن بها الآن لا التي أؤمن بها في ذلك الزمن الذي قد يلتبس فيه عندي تفسير الرموز. و"الحقيقة" ليست حُكمُا من نوع ما، الحقيقة هي تفسير لواقع من وجهة نظر المؤمن بها، وتفسيرها عندي يرتبط ارتباطا وثيقًا بكشف الخداع قبل أي شيء.