هرعت إلى مناديل المطبخ وغطيت الجرح بكومة من المناديل كي أوقف النزيف، بينما أهيل على الجرح المناديل، لمحت زاوية تغوص إلى عمق الإصبع تشبه الزاوية التي بين عقلتين إذا انثنى إصبع. ثم بدأت أستوعب حجم الإصابة، أول ما وعيت عليه هاتفي في غرفة النوم، هرعت إليه، كان الدم يتقاطر خلفي على الأرض وعلى ملابسي، لم يتوقف حتى خنقت كل يدي بالمناديل، اتصلت بابن خالي الطبيب، كان هاتفه مغلقًا، أخي الصيدلي لم يرد، أمي كذلك- أملًا أن توصلني بأخي، كانت الفكرة الحاضرة أني ربما أفقد الوعي وأنا وحدي بالشقة، فأردت ألا أتعفن موتًا.
لجأت أخيرًا إلى أوبر لطلب رحلة إلى المستشفى. لحسن حظي قُبل الطلب من سائق قريب من موقعي.
دخلت السيارة وفي حجري كومة من المناديل تلف يدي، وتحت إبطي علبة مناديل، وعلى ملابسي لطخات من الدم. جلست بجوار السائق وأنا أمازحه لأكسر غرابة المشهد: معلش منظر غريب شويه. ليبدأ بعدها حوار لشرح ما حدث.
في منتصف الطريق اقترح مستشفى أقرب فوافقت، وعند الاقتراب من المستشفى راجع الفكرة معللا أن الأخرى المسجلة في الرحلة قد تكون أفضل فهي أكبر، فرحبت بالاقتراح. كنت هادئا مستعينا برباطة جأش قلما احتجتها، كنت أجرب الجسارة رغم الجُرح. حقيقةً؛ لم أشعر بألم بسبب الجرح لأقاومه، لكن فكرة فقدان إصبع كانت ذات حضور أقوى، وأي سر تخفيه هذه الكومة العملاقة من المناديل، كان الألم الحقيقي على مستقبلي المهني، وعلى خططي المؤجلة.
وصلنا المستشفى بعد وقت طويل نسبيا. دخلت قسم الطوارئ في صحبة قائد أوبر الذي رفض أن يتركني، كان مشفقًا على وحدتي.
بدأ عمل الطاقم الطبي في إصبعي وهو يتلقى مني سرد تفاصيل الحادث، تم سؤالي حوالي ثلاث مرات نفس السؤال "إيه اللي حصل؟"- كل مرة من عضو مختلف. "كنت بغسل طبق فاتكسر في إيدي" - كنت أرد.
في الأول تلقاني طبيب الطوارئ الذي كشف عن الجرح لفات مناديل المطبخ، كنت أتجنب رؤية الجرح كوسيلة لتقليل الألم، لمحت في وجهه انقباضة تشبه انقباضة وجه بعد تناول نصف ليمونة. تفرست فيه طبيب لا زالت تؤثر فيه مشاهد الدم، وكان أكثر أعضاء الطاقم طيبة وليونة في التعامل. لاختبار هذا سألته بسذاجة محسوبة بعد أن شرح لي حجم الجرح:
- يعني كويس إن أنا جيت؟
فالتفت لي بعزمٍ ليؤكد أن هذا شيء لا خلاف عليه.
حضر طبيبان آخران ليبدآ فحص الجرح، أمسكا المقصات ودار حوار خافت بينهما ووليت وجهي الناحية الأخرى. استدعيت في ذهني مشاهد الجرحى في غزة جراء حرب السابع من أكتوبر، استعنت بها لأخفف على نفسي الألم. شعرت بواجب مقاومة الألم بقدر مقاومتهم، آمنت أن ألمي لا يمكن قياسه إلى آلامهم، فهذا إصبع في نهاية الحال.
لم أشعر بألم بالفعل لكن ليس بسبب مهاراتي التي استعنت بها لتقليل الألم، ولكن لأنهم خدّروا الجرح.
الأصابع هي أداتي في العمل - "أكل عيشي في صوابعي" كما شرحت لأحدهم.
قاموا بخياطة الجرح، أُعطيت روشتة وقليل من التعليمات وموعد قادم للعرض على الطبيب.
ثم غادرت المستشفى وكان في صحبتي صديقي الذي كلمته وأخبرته بوجودي في قسم الطوارئ، كانت هذه الطريقة الوحيدة لحمل قائد أوبر على المغادرة لأرفع عنه عبء ملازمتي.
بينما أكتب هذه التدوينة مرت أربعة أيام على الحادث، أربعة أيام لم أستيقظ فيها على تحضير قهوتي في وعاء الموكا بوت مع ساندويتشات زبدة الفول السوداني بالعسل المفضلة لدي، لم أمارس الرياضة أو حتى أملك رفاهية التفكير في ممارستها، لم أطهُ وجبة الغداء التي أتفنن فيها كل يوم، لم أشتر لوازم الطعام من مركز التسوق، واعتمدت بشكل كامل على شراء الأكل جاهزًا، اتضح أن ممارسة هذه الأمور البسيطة تحمل معنى عميق للحرية.
(2)
[3 فبراير]
لا زالت أنشطتي اليومية مُعلّقة، أدخل المطبخ في حدود ضيقة، لم يعد المكان الأكثر حضورا في يومي، بالكاد أستطيع تحضير وجبة الإفطار. لم أمارس الرياضة منذ وقت طويل. توقفت عن التفكير في خطط طموحة لقضاء وقت الفراغ، لا تفكير في سفر، أو ممارسة هواية جديدة (كنت أفكر في السباحة واشتريت نظارة السباحة بالفعل)
لم أحرك الإصبع منذ الإصابة، تأكدت أن الوتر بخير، لكن على الأرجح هناك قطع في العصب الحسي، ولأستعيد الاحساس فإني بحاجة لعملية دقيقة لإصلاح القطع.
الكتابة على الكيبورد أصبحت صعبة والتحرك بين المفاتيح عملية مرهقة ومملة. كنت بدأت تعلم الكتابة السريعة منذ عام ووصلت سرعتي إلى ١٠٠ كلمة في الدقيقة حتى أصبحت الكتابة على الكيبورد عملية سلسة لا أشعر بها تقريبا. سوف أتوقف عن الكتابة السريعة إلى أن أستعيد الإحساس في الإصبع، وربما قد تدهور سرعتي إلى ذلك الحين.
عُرضت على طبيب واحد والذي استنتج أني بحاجة إلى عملية، لكن - وكما يجري العرف الشعبي، سوف أستشير المزيد من الأطباء، هناك أمل أن تتعافى الأعصاب تلقائيًا.
(3)
[27 مارس]
ما قرأتَه بالأعلى هو شعور المُصاب بالهلع. هالتني حينها فكرة الخيوط المغروزة في جلدي لأول مرة، حتى جعلت من كل يدي مركزا للهلع، ومنعت عنها كل ألوان الحياة.
استقريت على طبيب جراح، الذي أرجى قرار العملية إلى بعد أسابيع من انتظار عودة طبيعية للإحساس في الإصبع (التئام طرفي العصب المُصاب)، لكن ذلك لم يحدث، وعليه فإن عملية للكشف عن العصب هي الطريق الوحيد للوقوف على حالة العصب.
سأعود هنا قبل العملية ربما، أو بعدها... لا أعرف.
(٤)
[٢٣ مايو]
أكتب من على سريري في الغرفة رقم ٣٢٩ بمستشفى النزهة الدولي.
التاريخ الآن بالظبط هو ٢٤ مايو الواحدة صباحا، لكنه امتداد للثالث والعشرين. آخر وقت وعيت عليه قبل دخولي في غيبوبة التخدير هو الحادية عشرة والثلث (صباحا)، حينما رأيت طبيب التخدير يحقن السائل في ظهر يدي، سألته: بنج؟... فأكد لي ذلك. فبحثت عن ساعة على أحد حوائط حجرة العمليات لأسجل وقت نهاية وعيي، وجدت ساعة معلقة على حائط أمامي، ثم اشتغل الدوار في رأسي وذيل حوار باقي بيني وبين طبيب التخدير يذوب في المخدر.
حينما حُملت على السرير المتحرك من غرفتي إلى غرفة العمليات، أعجبني الوضع كلعبة من ألعاب الملاهي، وكنت أكتم ضحكًا كالطفل الذي يدفعه أبوه على عربة. حتى ظهر أخي مقبلا يهرول من الغرفة ليلحقني فضحكت في وجهه كأننا نعيش نكتة، كانت البهجة ضرورية لأطمس نظرات الشفقة وأنا أمر على المرضى المنتظرين في طرقات المستشفى، لكن لا أنكر أن اللعبة أعجبتني.
استقبلني طاقم الجراحة ببشاشة، بحثت بعيني عن الطبيب الجراح الذي أعرفه جيدا أكثر من هؤلاء الجدد ويعرف حالتي، كان ورائي يرتدي قفازات الجراحة، تبادلنا التحايا، أنا بقلب مضطرب وهو بنبرة هادئة.
دبّت حركة نشيطة بين أعضاء الطاقم للتجهيز للعملية، بينما أخذ الجراح يرسم بتركيزٍ شديد الخطوط على يدي وقدمي لتحديد أماكن الجراحة.
ثم... ثم فقت في نصف وعي على سؤال ألقيته- أفكر فيه الآن كم هو قصير، ذكي، ويستطيع أن يُخبر بالكثير:
"هي العملية طولت؟"
لم أشعر بهم وهم ينقلونني من الدور السفلي (العمليات) إلى العلوي (العنبر)، لكن بالكاد شعرت بثقلي يُنقل إلى السرير في الغرفة، انتقال مفاجئ من السكون إلى الحركة، لكن الحركة تتجه نحوي بشكل حتمي لا مفر منه، مثل طاقة ضوء مفاجئة.
استغرقت العملية أكثر من ثلاث ساعات، ثلاث ساعات اقتُطعت من عمري، لا أعلم عنها شيئا مثل الثقب الأسود في نظام الكون. لا يشبه هذا العمر الضائع العمر الذي أقضيه في النوم بأي شكل، فالنوم راحة للوعي بتصديق منه، فالنوم جزء من الوعي، أما تلك الساعات الثلاث فهي انتقال وعيي من يدي إلى يد الجراح، أصبحت له الكلمة الأولى لمصيري، وقد وقّعت على الوثائق اللازمة لحصول الطبيب على هذا الحق الخاص. عندما فُقت من أثر التخدير وطالعت الروشتة التي أقرّها الجراح وجدت في أسفلها هذه الرسالة موجّهةً إليّ: "متابعة يوم الثلاثاء في العيادة"، قرأتها كأنها الأثر الوحيد الباقي من هذا الجزء المفقود من عمري، كأن في يوم الثلاثاء القادم مراسم عودة وعيي من يد الطبيب إلى يدي، في خلال الأيام الفاصلة حتى ذلك اليوم سأسجل كل أسئلتي للطبيب كي أستعيد ملكيتي على هذا الجزء المفقود من عمري وأسد الفراغات بشكل كامل.
تم ترقيع العصب المقطوع: أي أخذ جزء من أحد أعصاب القدم وتوصيل طرفي عصب الإصبع به.
ذراعي بالكامل ملفوف في أربطة من القماش، لا نريد أي حركة غير مرغوبة تؤثر على الرقعة، هذه عملية ميكروسكوبية دقيقة. وهناك لفات أقل على القدم اليمنى، القدم التي قدمت تضحية ثمينة لإصبعي، لابد أن أمتن لقدمي أكثر، أفكر في ذلك الآن وشعور بالحزن يخيّم عليّ وأنا ألمس جزء من قدمي ولا أشعر به، سأعيش بقية حياتي لا أشعر به، وحينما أموت، لن يموت هذا الجزء لأنه قد مات بالفعل. سوف أتعزى بالدرس وبالفلسفة لأقاوم فكرة غياب جزء من جسدي عني.
كل ما أفكر فيه الآن أن تمر الأيام الأولى بخير إلى أن تلتئم أطراف الرقعة العصبية في داخل إصبعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.