كانت المسافة بيننا أميال.
قلت لها هذا: "المسافة بيننا أميال"
قالت: "أنا لست خبيرة في نظام القياس الأمريكي"، واقترحت أن نقرأ كتابًا عن نظام القياس الأمريكي.
اقترحتُ أن أعيد جملتي بالنظام المتري الذي تفضله، لكنها كانت بالفعل أخرجت عدة اقتراحات من متصفحها، وبدت متحمسة.
على أي حالٍ قلت: "أشعر أن المسافة بيننا مئات الكيلو مترات".
تجاهلتني، لتتحول مأساتي إلى مسألة حسابية من نوع آخر وهو التحويل بين الوحدات المختلفة، فكيف نحوّل من كيلو مترا إلى طن؟
قالت إنها منذ أن أنهت قراءة الكتاب الأخير منذ أيام وهي حائرة في أي موضوع تقرأ، وأثنت على فكرة المقاييس.
قلت لها أن ما قلته لا يعدو كونه شكوى، وسألتها كيف حولتها هي إلى موضوع كتاب. وبدت أنها تُنصت إلى شيء في الكتاب الإلكتروني الذي بدأت بالفعل في قراءته، وكانت لها عادة الإنصات إلى الكتب؛ لو كنت طفلا لارتعبت منها وظننت أن لها القدرة على كشف الأشباح. لكني في هذه اللحظة مع ذلك كنت مرعوبا منها، حتى ظننت أنها توصّلت إلى اللغز الذي ألقيته عبثًا، وهو لغز المسافات بيننا، وتمنيت ألا يكون قد خاب حسّي العلمي في تقدير المسافة بيننا.
رفعتْ وجهها، وقالت هذه الملاحظة بعد عناء استنتاجات داخلية بان أثرها على تقطيب جبهتها: "هذا الموضوع… حقا… أين كان هذا الاقتراح؟"
أوقفت أناملها صفحة عشوائية وقضت ثوانٍ قبل أن تقطع حديثًا مع أشباحها، قائلة موجهة حديثها لي وهي تقرأ: "اسمع هذه القصة: ”…وهكذا أثرت قصة الحب في مجتمع القياس العالمي، فقد انتشرت هذه القصة وسط البحارة وقطاع الطرق في زمن غير معروف، وانتقلت من جيل إلى آخر، حتى اختلط الخيال بالعلم، فيُحكى أنّ بحارًا وقع في غرام امرأة في أرضٍ مما انتقلت إليها أسفاره، وما أن وقع في شباك الحب حتى انتهى وقرّ حيث تقر محبوبته، منتظرا كلمة، أو طَرفة، أو مجرد إشارة بالقبول. يُحكى أن النحول قد صابه، ولم يتعرف عليه أصدقائه القدامى. وفي ذات ليلة مقمرة، وهو جالس يتنسم البحر ويتذكر، زارته مليكة خياله، وأعطته يدها، كملاك من السماء مُرسل بأمر الرحمة. وتعانقت الرحمة والحب، وكُتبت نهاية لذبولِ روحه. عاشا معًا في حب، كأن الليالي كلها مقمرة وكأن ملاكًا للحب عُيّن لسلامهما. ولأنه بحّار وأعلم الناس بالبلاد فقد طلبت إليه أن يزورا كل يوم مدينة أو بلد أو جزيرة، فما كان منه إلا أن استجاب ليس برضا العالِم بعلمه، ولكن كأنه يرى البحر والعالم لأول مرة، فسافرا كل البلاد التي لها بحر، واكتشفا العالم بعين واحدة وقلب واحد مقبل على حياة جديدة كل يوم.
وفي ليلة اختفى منها القمر، انقلبت عليه كأنها أمر من أمور الدهر التي تفوق فهم البشر، واختفت كأنها لم تكن لينقلب حلمه كابوسًا، وسمع كلاما وأخبارًا تطعن في قلبه الطعنات. وقضى أيامه معذبًا، فكل الأماكن تذكره بها، فما من مدينة أو بلد أو جزيرة، إلا وله فيها ذكرى تذكّره. وفي ذات يوم، وقد تلبّسه روح الانتقام، فكر أنه سيعيد تخطيط الأماكن من دون أن يحركها؛ سيعيد رسم المسافات، سينهي عذابه بالذكريات، وفكّر: لو كانت المسافة بين مدينتين مئة كيلو مترا، فإنه سوف يخترع مقياسا جديدا يجعلها ستين… ووُلد النظام الإمبراطوري الجديد والذي يعرف أيضا بالنظام الأمريكي، لينهي عذابه بالأماكن…“". هنا وهنا فقط رفعت رأسها تنظر إليّ، كأنها تحمل بشارة، وكنت أفكر في القصة والتشابهات التي في مأساتنا. سألتها عن رأيها، قالت: "لا أعرف، لكن القصة مدهشة"، واقترحتْ أن أخترع نظاما جديدا للقياس، وبدأت نوبة من الضحك هي وأشباحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.