الصفحات

الثلاثاء، 28 فبراير 2023

من حكايات الربّة مسعودة

أول أمسٍ، مات شاعر مغمور، ورغم قِصر الفترة التي مرت على رحيله، إلا أن روحه بدأت تنسج خيوطًا في مغزل الخلود. وجدت قصيدته الأخيرة طريقها إلى مقال بإحدى الصحف، ممهور عنوانه بهذه العبارة: "البيت الأخير كتبه الشاعر قبل رحيله بيومين!"

لاحظ معي علامة التعجب المتذيلة عبارة الصحافي المسكين. هي إحدى تفتقات ذهنه الخالصة، أو لنكن صرحاء؛ هي إحدى تطريزات لعبة الغزل التي تلعبها ربة الخلود (الشعر سابقًا).

تقول الأسطورة، أن ربة الشعر العربي "مسعودة"، قامت على التآلف بين ربات الشعر القديم حين وجدت بينهم شقاق لا لزوم له، وبحكمة ربات العرب، استطاعت أن تترأسهم وتسمّ نفسها ربة الخلود. في تلك الأسطورة لم تُزهَق روح أو يُهراق دم، أو تقوم حرب أو تخون امرأة زوجها (أو العكس¹)، بل جرت هذه الأسطورة في صحراء بلاد عربية، لم يُحدد مكانها، لكن أقاويل متفرقة تهمس أنها جرت في صحراء مصر، أقاويل أخرى تزعق "بل في السعودية"، وأخرى تنادي "بل ليبيا". هذه أسطورة مملة جدا، مثلا؛ تأخرت ربة القصة القصيرة عن الموعد المتفق عليه، ولعبت الربات اللاتي حضرن لعبة الخلود إلى أن تصل ربة القصة القصيرة، في هذه اللعبة يتم اختيار كاتب عشوائي شرط أن يكون مضى على موته ليس أكثر من عامين، ورقوه سلم الخلود بدون أية اشتراطات (لجائزة ساويرس ألا تسمح بمثل هذه المهزلة) وضحكت ربة المسرح من هذه اللعبة، وكانت مائلة للمسرح الكوميدي، كما يظهر في شخصيتها. وصلت ربة القصة القصيرة في عجالة من يشعر بالتخلف عن أمر هام وظهر عليها عناء السفر، وقدمت اعتذارات وتبريرات، لم يناقشوها لما تأخرت أو "إحنا اتفقنا على معاد.. إلخ"، لا، بل ما زالت فيهم بعض من سموّ ربات هومر وڤرجيليو، وكياسة ربة اللُطف التي غفرت لمن تأخر ألف سنة وساعتين عن موعده، وما أن ركع يطلب الغفران حتى أقامته وقالت: "عذرك معاك".
ثم أن ربة القصة القصيرة حديثة عهد بمثل هذه الأمور، صحيح أنها وُلدت يوم وُلدت المقامة العربية، لكنها تقاعست عن القيام بدور ذي خطر.
بدأوا لتوّهم مناقشات حول كم هي مملة كثرة الأساطير وتشعّب رواياتها، وعدم ملاءمتها لحاجات العصر المتلاحقة تطوراته، وبدوا جميعًا منصتين إلا ربة قصيدة الهايكو، وهذه لا يعجبها العجب على كل حال.
اتفقوا على لم الشمل تحت لواء ربة الشعر مسعودة، وهي - لمن توقف عند رواية هومر العتيقة- ربة من أصول عربية، يُقال أنها حفيدة إحدى ربات العرب التي كانت تُعبد في الجزيرة وكانت مرصًدا للأديان مجتمعة في حربهم على آلهة الجزيرة. يُقال أنها تسلمت راية الشعر من ربّات الإغريق عندما تأكدّت نبوءة ظهور المسيح، وتنبؤوا بحروب لا نهاية لها في أرض الرومان وكان على جميع الأرباب الانضمام تحت لواء چوبيتر، استعدادًا لحربٍ تحدد مستقبل وجودهم. لم يكن الحال بأفضل من هذا في بلاد العرب، لكن رحلت مسعودة إلى مصر بعيدًا عن فوضى هذا العصر. وتوقفت صكوك الخلود مؤقتا في هذه الفترة حتى تنتهي المراسلات بين الأنبياء والملوك بهدف البشارة، يُقال أنها نزلت قُرب أسيوط حاليا أو المنيا، لكن كلها شطحات خيال شعراء هاتين المحافظتين ممن يدّعون أنهم مخلّدون، في ندوات قصور الثقافة.
بدأت مسعودة، على أنغام ربة الموسيقى (وكانت تلعب تكنو، قبل أن يسحبك خيالك إلى آلة الهارب مثلا، فهي لا وجود لها إلا في الأوبرا): الخلود هو مشروعي، هو السلعة الأكثر رواجًا، لو بيدي لجعلته باشتراك شهريّ، مثل العلامة الزرقاء (ضحكت ربة المسرح هنا بشدة، وهي التي حصلت لتوها على علامة زرقاء في تويتر من خلال هيئة تنشيط السياحة الإيطالية)، وهي القاسم المشترك بيننا جميعا. مشروعي هو أن نمنح الخلود لمن يدفع أكثر…
هنا، وهنا فقط، اعترضت ربة الهايكو ساخرة: مثل البيض…
وما أن تفوهت بهذه حتى رمقتها ربة الشعر العجوز نظرةً، لخصت تاريخ الصراع والانفصال بينهما. وحتى لا تنشب حرب بينهما، استدركت مسعودة:
- Laissez-faire.

وعدّت أمثلة ممن أبخست حقهم في الخلود ربة الشعر، وذكرت كافكا؛ فانتصبت ربة الرواية عند ذكر الاسم تبجيلًا وأومأت ربة القصة القصيرة، وتشايكوفسكي؛ فتوقفت ربة الموسيقى عن لعب التكنو وعزفت مقطوعة من بحيرة البجع تمجيدًا. وڤان جوخ وغيرهم ممن استطاعت من خلالهم الربّة مسعودة أن تسوق حجتها في فشل نظام الخلود القديم الذي قادته ربة الشعر. واقترحت في النهاية أن كل ما يتطلبه الأمر هو أن يموت الكاتب حتى يُخلّد، ولكنها ستمنح الكاتب قبل أن يموت نبوءة موته، ليستمتع بها وتكون صلاته الأخيرة وشاهدِه الحي على الخلود. وجعلته نظاما أصيلا بدلا من العشوائية السابقة التي لم يحكمها حاكم ولا رابط.

قبل أن يموت الشاعر المغمور، كتب هذا البيت الأخير من قصيدته الأخيرة: 
"آنبوءة الموت…".

تنسب ربة الهايكو هذا البيت لنفسها بينما تريد أن تنتزعه ربة الشعر العجوز. كانت الخطة متعثرة في بدايتها والتنفيذ تحُوله العقبات، وهي تفاصيل تنفيذية لم يتح لنا أبدا الاطلاع عليها من خلال كتابات هومر وڤرجيليو.


*******


¹ أضفتها خوفا أن تُنسب قصتي لأدب المحافظين، مع ذلك هي ليست من أدب الليبرالية اليسارية.

*القارئ النبيه سوف يعترض على ذكر السعودية وليس جزيرة العرب، والكوميديا محل الفكاهة، أقول لهذا القارئ: هذه ليست نباهة، وهذا رأيي المتواضع.

الجمعة، 17 فبراير 2023

موضوع المسافات في قصة حب بحَّار

كانت المسافة بيننا أميال.

قلت لها هذا: "المسافة بيننا أميال"

قالت: "أنا لست خبيرة في نظام القياس الأمريكي"، واقترحت أن نقرأ كتابًا عن نظام القياس الأمريكي.

اقترحتُ أن أعيد جملتي بالنظام المتري الذي تفضله، لكنها كانت بالفعل أخرجت عدة اقتراحات من متصفحها، وبدت متحمسة.

على أي حالٍ قلت: "أشعر أن المسافة بيننا مئات الكيلو مترات".

تجاهلتني، لتتحول مأساتي إلى مسألة حسابية من نوع آخر وهو التحويل بين الوحدات المختلفة، فكيف نحوّل من كيلو مترا إلى طن؟

قالت إنها منذ أن أنهت قراءة الكتاب الأخير منذ أيام وهي حائرة في أي موضوع تقرأ، وأثنت على فكرة المقاييس.

قلت لها أن ما قلته لا يعدو كونه شكوى، وسألتها كيف حولتها هي إلى موضوع كتاب. وبدت أنها تُنصت إلى شيء في الكتاب الإلكتروني الذي بدأت بالفعل في قراءته، وكانت لها عادة الإنصات إلى الكتب؛ لو كنت طفلا لارتعبت منها وظننت أن لها القدرة على كشف الأشباح. لكني في هذه اللحظة مع ذلك كنت مرعوبا منها، حتى ظننت أنها توصّلت إلى اللغز الذي ألقيته عبثًا، وهو لغز المسافات بيننا، وتمنيت ألا يكون قد خاب حسّي العلمي في تقدير المسافة بيننا.

رفعتْ وجهها، وقالت هذه الملاحظة بعد عناء استنتاجات داخلية بان أثرها على تقطيب جبهتها: "هذا الموضوع… حقا… أين كان هذا الاقتراح؟"


أوقفت أناملها صفحة عشوائية وقضت ثوانٍ قبل أن تقطع حديثًا مع أشباحها، قائلة موجهة حديثها لي وهي تقرأ: "اسمع هذه القصة: ”…وهكذا أثرت قصة الحب في مجتمع القياس العالمي، فقد انتشرت هذه القصة وسط البحارة وقطاع الطرق في زمن غير معروف، وانتقلت من جيل إلى آخر، حتى اختلط الخيال بالعلم، فيُحكى أنّ بحارًا وقع في غرام امرأة في أرضٍ مما انتقلت إليها أسفاره، وما أن وقع في شباك الحب حتى انتهى وقرّ حيث تقر محبوبته، منتظرا كلمة، أو طَرفة، أو مجرد إشارة بالقبول. يُحكى أن النحول قد صابه، ولم يتعرف عليه أصدقائه القدامى. وفي ذات ليلة مقمرة، وهو جالس يتنسم البحر ويتذكر، زارته مليكة خياله، وأعطته يدها، كملاك من السماء مُرسل بأمر الرحمة. وتعانقت الرحمة والحب، وكُتبت نهاية لذبولِ روحه. عاشا معًا في حب، كأن الليالي كلها مقمرة وكأن ملاكًا للحب عُيّن لسلامهما. ولأنه بحّار وأعلم الناس بالبلاد فقد طلبت إليه أن يزورا كل يوم مدينة أو بلد أو جزيرة، فما كان منه إلا أن استجاب ليس برضا العالِم بعلمه، ولكن كأنه يرى البحر والعالم لأول مرة، فسافرا كل البلاد التي لها بحر، واكتشفا العالم بعين واحدة وقلب واحد مقبل على حياة جديدة كل يوم.

وفي ليلة اختفى منها القمر، انقلبت عليه كأنها أمر من أمور الدهر التي تفوق فهم البشر، واختفت كأنها لم تكن لينقلب حلمه كابوسًا، وسمع كلاما وأخبارًا تطعن في قلبه الطعنات. وقضى أيامه معذبًا، فكل الأماكن تذكره بها، فما من مدينة أو بلد أو جزيرة، إلا وله فيها ذكرى تذكّره. وفي ذات يوم، وقد تلبّسه روح الانتقام، فكر أنه سيعيد تخطيط الأماكن من دون أن يحركها؛ سيعيد رسم المسافات، سينهي عذابه بالذكريات، وفكّر: لو كانت المسافة بين مدينتين مئة كيلو مترا، فإنه سوف يخترع مقياسا جديدا يجعلها ستين… ووُلد النظام الإمبراطوري الجديد والذي يعرف أيضا بالنظام الأمريكي، لينهي عذابه بالأماكن…“". هنا وهنا فقط رفعت رأسها تنظر إليّ، كأنها تحمل بشارة، وكنت أفكر في القصة والتشابهات التي في مأساتنا. سألتها عن رأيها، قالت: "لا أعرف، لكن القصة مدهشة"، واقترحتْ أن أخترع نظاما جديدا للقياس، وبدأت نوبة من الضحك هي وأشباحها.

كتاب: المغالطات المنطقية

المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوريالمغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري by عادل مصطفى
My rating: 4 of 5 stars


انتهيت من قراءة ربما واحد من أهم الكتب التي قرأتها على الإطلاق. أجلت قراءته أكثر من مرة، لكن بحثا عن كتاب غير أدبي يتخلل قراءة قصيدة الكوميديا الإلهية برز هذا الكتاب بقوة.
أقول، في رأيي المتواضع الغير ملم بفصول الفلسفة، أن قراءة ودراسة المغالطات المنطقية هي ما يجب أن تصب وتجتمع فيه كل الأفكار الفلسفية موحدة جهودها في صياغة طريقة رصينة واضحة المعالم ل"نقد الجدال"، ولا أعرف هدفًا أسمى للفلسفة تجاه عموم الناس أكثر من عقلنة طرائقهم في الحوار والتفكير.
على المستوى الشخصي أحسب نفسي متسلّحّا بأكثر من سلاح ضد الوقوع فريسة للمغالطات واكتشافها كذلك، ذلك أني هذبت نفسي بالأدب الجيد منذ أن واظبت على القراءة، والأدب الجيد ربما هو وصف سريع للأدب المحبوك جيدا الذي هو بدوره محاكاة تخيلية لمنطق العقل الناضج.
مع ذلك سوف أترك مساحة آمنة لنفسي أعترف فيها أني من وقت لآخر أرتكب مغالطة أو أكثر، دافعها ربما عدم الإلمام بمادة الحوار، أو ربما الموضة التي خلقتها وسائل التواصل الحديثة في الرغبة القاهرة في أن يكون لي "منبرا" والتي تصل عند البعض إلى حالة من "استجداء الانتباه" والذين يعرفون في لغة الإنترنت بال "attention whore"، لكني اكتشفت هذا التأثير السلبي للإنترنت مبكرا وحصّنت نفسي منه قدر إمكاني.
ملاحظات تأثير الإنترنت على أشكال الحوار قد فاتت الكتاب رغم أهميتها، لكن ربما ذلك بسبب أنه وقت كتابته لم يكن للإنترنت نفس التأثير الموجود الآن.
الكتاب إذن؛ فلسفي بسيط وهي سمة لا نزول عنها في كتاب فلسفي لقارئ عام مثلي. ساح في أكثر من مدرسة فلسفية بشكل سلس وممتع.
لكن إذا كنت أدعي أني محصنًا، فما الذي جاء به الكتاب؟
وضع الكتاب إطارًا واضحًا لنقد الجدل مبني على أساس علمي، مستبدلًا إحساسي العشوائي بوجود خلل في طرح ما، ففكرة تصنيف المغالطات المنطقية إلى تصنيفات معلوم أشكالها وظروف استخدامها، لهي فكرة فعالة لقنصها من فم مرتكبها، سواء كان هذا المرتكب أنا أو الطرف الآخر.

ظهرت بعض المغالطات في أسلوب الكاتب في عدم التزامه الحيادية في تمثيل الدين، حيث ظهر انتمائه الديني يطغى على أسلوبه النقدي في بعض المواضع. ربما لهذا السبب أنتقص من التقييم نجمة.
مجملا الكتاب محاولة شجاعة للفت الانتباه لفكرة المغالطات في مجتمعنا العربي وزرع ثقافة النقد لكل ما يستقبله العقل من أفكار. و إلى حد علمي هذا هو أشهر كتاب عربي في هذا الموضوع.
بجانب هذه المراجعة التي انتهت للتوّ، كنت بدأت محاولة على تويتر لتسجيل قراءتي اللحظية للكتاب:
https://twitter.com/Mohamed_Lshawaf/s...


View all my reviews