الصفحات

الخميس، 20 أغسطس 2015

العفاريت


كان دسوقي حلاقًا نادرًا من نوعه، لم يُعرف عنه أنه قال أكثر من كلمتين لزبائنه: "اتفضّل" و"نعيمًا" وما بينهما لا يُسمع سوى صوت المقص يجز الشعر. لم يطالبه أحد أن يتكلم بالطبع، لأن هذا يضمن لهم -هكذا اعتقدوا- حلاقة أفضل وأسرع من لو كان مشغولًا بالحديث والثرثرة. لكن ما الذي حدث جعل دسوقي يحكي هذه القصة لكل زبائنه حتى للغرباء منهم؟

تقول القصة باختصار: أنه كان يسير وحده ليلًا بعد انتهاء عمله في أحد الشوارع المعتمة المهجورة، ثم جاءه صوت لامرأة عجوز تقول "تعالى هنا، تعالى ساعدني أنا تعبانة"، يقول بحماس: "شعري وقف، وما حسّتش إلا ورجلي شايلاني وبتطير". كان يريد أن يجد تفسيرًا من أي زبون لديه، حتى أنه كان يُمعن في ذكر التفاصيل وشرحها كي يقدم لهم كل التساهيل لتبديد مخاوفه، لكن أحدًا لم ينتبه لذلك، فقط تقبلوا وضعه الجديد على أنه أصبح من هذا النوع من الحلاقين؛ ثرثارًا.

كانت من ضمن هذه التفاصيل أن صوتها كان ينصبُّ عليه من جهة اليمين، حيث النباتات الشيطانية والظلام الذي لا تستطيع أن تتبين منه شيء، وأنها رغم ادعائها التعب كانت لها نبرة قوية كأنها في غنىً عن مساعدته، يقول لأحد زبائنه "حتى لو كانت تعبانة كانت كحّت ولا مثلت إنها بتكح، لكن أبدًا يا أستاذ رمضان صوت فيه صحة عشر رجالة"، كان الأستاذ رمضان يقول "آه" خارجة من حلقه الضيق وذقنه منكفئة على صدره فقط ليجاريه في الحديث، ودسوقي يتابع جز الجزء السفلي من رأسه، والأستاذ رمضان ملتزم بأن يقول "آه" أو "غريبة".

"أنا برضو طلعتلي واحدة نايمة جنب القناية وبتقولي تعالى لِم شعري اللي واقع في الميا، وكان مقصوص وهي كان باين شكلها مدبوح، كانت الساعة واحدة، سبت المجموعة شغالة وجريت لحد بيتنا من غير الحمار حتى".. هكذا حكى محمود عن تجربته مع العفاريت لدسوقي الحلاق، وقد وجد أخيرًا زميلًا يشاركه نفس الشعور والتجربة، حتى أنه توقف قليلًا عن الثرثرة ليسمع منه بانتباه شديد. ثم اتفقا أن يسيرا ليلًا في يومٍ في الشارع المعتم ويومٍ آخر عند القناية، كان قرارًا صعبًا بالنسبة لمحمود، لكنه أذعن في النهاية لوجاهة السبب الذي أقنعه به دسوقي: "لو واحد بس يطلعوله، لو اتنين يخافوا منهم، ولو تلاتة بيموتوا"، لم يكن لأحد أن يشكك في هذه القاعدة القديمة الغير معروف مصدرها في القرية، لكنها من العقائد. بالطبع حاولا أن يُدخلا ثالثًا معهما في المغامرة، لكن أحدًا لم تواتيه شجاعة دسوقي أو رغبة محمود في التخلّص من العفاريت، فهم- أهل القرية- إن كانوا يؤمنون إيمانًا بعيدًا بالعفاريت وقدرتها، إلا أنهم يؤثرون الابتعاد عن كل ما يخصها للسلامة قبل أي شيء، خصوصًا وأنهم يعتبرون وضعهم أفضل من وضع محمود ودسوقي.

حفظا آية الكرسي على صعوبتها بالنسبة إليهما. بدآ بالشارع، سارا متلاصقين وهما يرتّلان بلا توقف، كانا يخطئان أحيانًا في الآية لكنهما لم يشعرا بذلك، وأرهفا السمع لكل حركة تند من حولهما، وحين خرجا من الشارع لم يتوصّلا إلى نتيجة يقينية، فمحمود يقول بشكل قاطع مُنذر، أنها كانت تتحرك بمحاذاتهما وأنها كانت تريد دسوقي وحده دون محمود لكنها خافت محمود. في حين يرى دسوقي بشكل أقل تأكيد فيه تردد أن ذلك كان كلب لمح ذيله وسمع لهاثه، لكنه لم يستطع مقاومة نبرة اليقين والتحذير لدى محمود. ويمكننا أن نقطع بأنهما لم يخرجا من الشارع سوى بمزيد من القلق والخوف. ثم جاء يوم القناية، حاول دسوقي أن يثني محمود عن عزمه، لكن محمود رأى أن عواقب الإخلاف بالوعد وخيمة وكان يشعر من داخله بالغدر، لكن في الحقيقة كان دسوقي في طريقه لأن ينسى الموضوع برمّته، لكنه رضخ لرغبة محمود في النهاية لإلا يقع تحت طائلة الإخلاف بالوعد. استقبلا بداية الطريق المظلم المحاط بالمساحات الزراعية الشاسعة بالقلق نفسه، كأن ذلك أصبح من طقوس السير في الأماكن المظلمة، وبدآ بتلاوة آية الكرسي وكان محمود يلهث فينطق بعض الكلمات أثناء شهيقه رافضًا أن يترك مجالًا للصمت دون أن يملأه بالآية، وحين اقتربا من القناية تشبّث محمود بساعد دسوقي بشكل لا إرادي لو حدث لشخص آخر لحكم عليه بالجبن و"النسونة" فورًا، توقفا أمام القناية وهما يرتلان بصوت منخفض خوفًا من أن يلفتا انتباه العفريته لوجودهما، توقف دسوقي وسأل محمود إن كان يرى شيئًا، لكنه ضغط بأصابعه الملفوفة حول ساعده وهو مستمر في التلاوة يريد أن يقول "اصبر". ثم فجأة سمعا أنفاسًا ولهاثًا متعاقبة تشي بغضب لا يرونه من خلف الشجيرات، وبدأ دسوقي في التلاوة بشكل عصبي، ثم فجأة خرج هذا الشيء الضخم من بين الشجيرات ليؤكد أن هذه الأنفاس الغاضبة واللهاث المتواصل هي له، ثم نبح الكلب العملاق مكشّرا عن أنيابه وأطلق قوائمه نحوهما يريد اقتناص الغريبين فأطلقا هما أيضًا ساقيهما ليعدوان بأقصى ما يستطيعا لا يعيان ما الذي يحدث من حولهما، حتى وجدا نفسيهما قد باعدت المسافة بينهما وبين نباح الكلب، فأبطآ من العدو، واندفاع لهاثهما يعجزهما عن التناقش فيما حدث، حتى توقفا عندما اطمئنا لنجاح هروبهما، قال محمود بصوته اللاهث "يا نهار أسود"، بينما يفرغان لهاثهما ناحية الأرض وهما يأخذان وضعية الركوع. وقد رجعا القرية ولم يتحدثا سوى عن هروبهما الأسطوري من هذا "الذئب" العملاق- وقد أصرّ محمود أنه كان ذئب لا كلب، وكان الجميع يصدقهما.

بعد عدة أيام كانت البلدية تعلق مصابيح في الشوارع الرئيسة، وقد أصبح الشارع المظلم مختلفًا عمّا كان عليه ليلًا، وقد جرب دسوقي أن يمشي في الشارع وهو مضيئ للمرة الأولى، وكل ما اكتشفه أن هناك سحالي وثعابين وكلاب على جانبيه لا تظهر نهارًا، وخرج منه مندهشًا من تجربته الخيالية. وحين عرف منه محمود ذلك، نظر إليه بعين الحسد خصوصًا وأنه ما زالت تؤثر فيه حكاية العفريتة ويرى أنها كانت موجودة والذئب هو من كان يحرسها، لكنه لم يشأ أن يفاتحه في الأمر، وكان عليه أن يسهر في اليوم التالي عند القناية لمتابعة الري. وحين رأى عُمّال البلدية يعلقون المصابيح جرى نحو أحدهم وكان أعلى سلم خشبي وقال له: "والنبي ابقوا علقوا لمبة هناك في الغيط جنب المجموعة عشان ضلمة خالص"، فأشار له العامل وهو يقوم بقطع طرف سلك مُعلّق بين شفتيه إلى رئيس العمال والذي كان يرتدي قميصًا وبنطلونًا نظيفين، فاتجه نحوه محمود بجلبابه المتواضع في شيء من الحرج والرجاء: "والنبي يا بشمهندس ابقوا علقوا لمبة في الغيط جنب المجموعة عشان ضلمة خالص"، نظر إليه الرجل غير مدرك السبب وراء هذه السذاجة والرغبة في الرفاهية، ثم قال في استخفاف: "مبقاش إلا الغيطان كمان"، حاول أن يحكي له عن العفريتة والذئب لكنه كرهه لفوره.

الجدير بالذكر أن دسوقي عاد إلى سيرته الأولى، لا يقول أكثر من كلمتيه: "اتفضل" و"نعيمًا".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.