الصفحات

السبت، 21 سبتمبر 2013

نبي اللغة أبو العلاء المعري فى اللزوميات

My rating: 4 of 5 stars

مِثلُ ابن مالك الذى كتب قواعد النحو والصرف شعراً، فقد كتب المعرى فلسفته شعراً أيضاً.. يختلف عن غيره من الشعراء، الذين هم بطبيعتهم فلاسفة، أنه لا يهتم سوى بالجانب الفلسفى، لا يهتم بالبيان ولا بجماليات القصيدة، لولا القافية لصارت كلماته نثرا جامدا، وهذا أثقل قصائده، لكن ما يغفر له هذا الجمود ذلك القدر من التنوير والفلسفة الرفيعة، وأى تنوير!: المعرى صاحب أصلد عقلية نقدية قرأت عنه، وبالمناسبة فهذا الرجل كثيرا ما اقترن فى ذهنى بالفيلسوف الإغريقى ديوجين، تشابها كثيرا فى أنفتهم وإباءهم ونظرتهم للحياة والموت..
شعاره فى الحياة: لا شيء يعلو فوق العقل! انتقد كثيرا سلطة رجال الدين، لا يعجبه نظام الفقهاء الأربعة، حتى الأحاديث النبوية فهى تابعة عنده لنظام النقد، فما لا يتوافق مع العقل يكون عنده حديث مرفوض، لأن فى رأيه أن الأحاديث تعرضت كثيرا للتحريف والتزييف، وأنه لا سبيل إلا العقل للوصول إلى الحقائق الإلهية.
ينتقد النظام الوراثى للدين وأنه نظام يحجر على قيمة العقل، رافضا أن يكون الدين مجرد تقليد وعادات متوارثة:

عاشوا، كما عاشَ آباءٌ لهم سَلَفوا * وأورثُوا الدّينَ تقليداً، كما وَجَدُوا
فما يُراعونَ ما قالوا، وما سمعوا * ولا يُبالونَ، من غيٍّ، لمن سجدوا
والعُدْمُ أروحُ ممّا فيه عالَمُهمْ * وهو التكلّفُ، إن هبّوا، وإن هجدوا

في كلّ أمرِكَ تقليدٌ رضيتَ به * حتى مقالُكَ ربّي واحدٌ أحدُ
وقد أمَرنا بفكْرٍ في بدائعِهِ * وإن تفكّرَ فيهِ مَعشَرٌ لحدوا
وأهلُ كلّ جدالٍ يُمسِكونَ به * إذا رأوا نورَ حقٍّ ظاهرٍ جحدوا
ثم فى معرض حديثه عن الأديان مجتمعة:

مـا أسْـلم المسـلمونَ شــرَّهُمُ * ولا النصارى لـدينهم نصــروا
ولا يهـــودٌ لتـــوبةٍ هــادوا * وكــلُّهم لي بـذاك أشــهادُ
ثم هنا يشير إلى سلطة العقل فى الحكم والنقد على الأحاديث:

جاءت أحاديثُ إن صحتْ فإن لها شأناً ولكنّ فيها ضعف إسنادِ
فشاور العقل واترك غيره هدرا فالعقلُ خيرُ مشيٍر ضمّه النادي
وعن نقل الأحاديث:

العَدلُ صَعبٌ، وكلّما عدَلَ الـ * ـإنسانُ عن عَدْله، امترى ثِقَلَهْ
تُصغي إلى ناقِلِ الحَديثِ، وهل * تَصدُقُ، فيما تُحدِّثُ، النَّقَلَهْ؟
وعن ضعف الأسانيد:

لقد أتَوْا بحَديثٍ لا يُثَبّتُهُ * عقل، فقلنا: عن أيّ النّاس تحكُونَهْ؟
فأخبَرُوا بأسانيدٍ لهم كُذُبٍ * لم تَخلُ من كَرّ شَيخٍ لا يزَكّونَه
وتلك الحكمة التى نحن فى أمس الحاجة إليها فى مثل هذا العصر الظلامى العابس العابث:

نَبذْتمُ الأديانَ منْ خَلفِكم * وليسَ في الحكمةِ أن تُنبَذا
لا قاضيَ المِصرِ أطعتُم، ولا * الحَبرَ، ولا القَسُّ، ولا الموبَذا
إن عُرضَتْ مِلّتُكمْ، بينهم * قال جميعُ القومِ: لا حبّذا
وتلك الأبيات بمناسبة امتعاض زميل لى ورفيقى حين كنت أناقشه فى بعض أمرٍ وواجهته: كلنا فينا شيء من الكفر، فامتعض لدرجة الصمت، وصمت لدرجة التقيوء.. يقول المعرى الحكيم:

يُسمّي غويٌّ من يُخالفُ كافراً * له الويلُ، أيُّ الناسِ خالٍ من الكُفْر؟
حَصلنا على التمويهِ، وارتابَ بعضُنا * ببَعض، فعندَ العَينِ رَيبٌ من الشُّفر
وليسَ الذي قالَ اليهوديّ ثابتاً * سوى أنّهُ بالخَطّ أُثبِتَ في السِّفر
غفَرْنا وما أغنى اغتفاراً، وإنّما * عَنيتُ انتكاسَ البُرْءِ لا كرَمَ الغَفْر
إذا خَشِيَتْ أُمٌّ، على ابنٍ، منيّةً * فيا أُمّ دَفرٍ قد أمِنْتِ على دَفْر
وهنا يعرض المعرى فلسفته حول عبث الحياة:

عصر شتاء، وعصر قيظ، وعيد فطر، وعيد نحر
ويوم نعمى، ويوم بؤس، ونحن في خدعة وسحر
كأننا، والزمان يمضي، ركب سفين بلج بحر
فلسفة عبثية أخرى:

إذا فَزِعنا، فإنّ الأمنَ غايَتُنا * وإنْ أمِنّا، فَما نَخلو من الفَزعِ
وشيمَةُ الإنسِ مَمزُوجٌ بها مَلَلٌ * فَما نَدُومُ على صبرٍ ولا جَزَع
وعن حقوق المرأة:

تزوج، بعد واحدة، ثلاثا * وقال لعرسه يكفيك ربعي
فيرضيها، إذا قنعت بقوت * ويرجمها، إذا مالت لتبع
ومن جمع اثنتين، فما توخى * سبيل الحق في خمس وربع
ظلمت، وكلنا جان ظلوم * وطبعك في الخيانة مثل طبعي
وهنا ينتقد نظام الأئمة، وأنه سبب الكثير من حالة الدوار المجتمعى:

أجازَ الشّافعيُّ فَعالَ شيءٍ * وقالَ أبو حَنيفَةَ لا يَجوزُ
فضَلّ الشِّيبُ والشّبّانُ منّا * وما اهتَدتِ الفَتاةُ ولا العَجوزُ
لقد نزَلَ الفَقيهُ بدارِ قَومٍ * فكانَ لأمرِهِ فيهِمْ نجوزُ
ولم آمَنْ على الفقَهاءِ حَبساً * إذا ما قيلَ للأمَناءِ جوزُوا
وهنا يتحدث المعرى عن علاقة العقل بالدين، ورأيه أنه قلّما اجتمعا:

إنْ هَلّلَتْ أفواهُكُمْ، فقلوبُكُمْ * ونفوسُكمْ، دونَ الحقوقِ، مُهلَّلَهْ
هفَت الحَنيفةُ، والنّصارى ما اهتدتْ * ويهودُ حارت، والمَجوسُ مُضلَّلَه
اثنانِ أهلُ الأرضِ، ذو عَقلٍ بلا * دِينٍ، وآخرُ دَيّنٌ لا عَقلَ لَه
وهنا المعرى يُعرى من يستخدم الدين ليبيح لنفسه القتل بغير حق:

أتَوْكُم بإقبالهمْ والحُسامِ * فشَدّ بهِ زاعِمٌ ما زَعَم
تَلَوْا باطِلاً، وجلَوْا صارِماً * وقالوا: صدَقنا! فقلتم: نعَم!
أفيقُوا، فإنّ أحاديثَهم * ضِعافُ القَواعِدِ والمُدّعَم
زَخارِفُ ما ثَبَتَتْ في العُقو * لِ، عمّى عليكمْ بهنّ المُعَم
لكن حتى لا تختلط علينا الأمور، فها هو الرجل يعلن أنه موحد:

أمّا المُجاورُ، فارْعَهُ وتوقَّه * واستعفِ ربّكَ من جوارِ المُلْحِدِ
ليسَ الذي جَحَدَ المليكَ، وقد بدتْ * آياتُه، بأخٍ لمنْ لم يَجْحَد
وأرى التوحُّدَ، في حياتكَ، نِعمةً * فإنِ استَطَعتَ بُلوغَه، فتوحّد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الرجل هو بحق نبى اللغة، فعلى الرغم من خلو قصائده من الشعرية والبيان ما أفقد أبياته لذة الشعر المعهودة، إلا إن فلسفته جديرة بالاحترام، لقد أقر بسلطة العقل مرسخا قواعد نقدية هامة، لقد كان من أوائل من تحدثوا صراحة عن نقد الأديان، سبق ديكارت وكانط وغيرهم ممن أحدثوا بأفكارهم طفرات فكرية وعقلية فى تاريخ أممهم..
ثم يظل هذا السؤال المُلِحّ يطرح نافسه دائماً: لماذا، ونحن العرب ظهرت لدينا أعلام فكر فى كل عصر بدءا من عصور الإسلام الأولى على يد فلاسفة من أمثال المعرى وابن رشد وابن خلدون وابن سينا وغيرهم، حتى العصر الحديث كان لدينا مفكرين أمثال رفاعة الطهطاوى، الكواكبى، ومحمد عبده، فرج فودة.. لماذا ونحن لدينا كل هؤلاء يكونون دائما بلا تأثير يُذكر، فى حين أن حضارة وتقدم الغرب مرهون دائما بمفكريه، هم من يؤثرون ويصوغون مستقبلهم.. وكأن العرب لن يتغيروا بفكرٍ أو بعقل؟؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.