الصفحات

الجمعة، 16 مارس 2012

رقصة المطر




    من وسط سقف كقطعة من سماء تلك الليلة كانت تتدلى بللورة زجاجية كنجم هاوٍ بين الأرض والسماء تحوم حولها قطرات دقيقة من الضباب ينبعث منها ضوءا باهتا صنع دثارا أصفر على الأرض والسلم, وقف عند سدة المنزل وأخذ يراقب حبات المطر الغليظة وهى تسقط من السماء بميل شديد, يحب صوت المطر وتنتشيه رائحته. تأكد من إحكام حذائه, والكوفية تلف رقبته, يرتدى معطفا أسود من الجلد.
ثم نزل إلى الشارع, فانهال عليه وابل من حصى المطر البارد, كانت تتساقط على معطفه وتشد بعضها بعضا فتنزلق بنعومة إلى الأرض, قفزت بعض الحبات إلى وجهه, فسرت قشعريرة البرد فى جسده, انزلقت إحداها إلى فمه, وذابت فى رضابه ثم ابتلعها كأنه ارتوى...
كان يسير بحذر شديد, بخطًى بطيئة, رأسة مغروسة فى الكوفية, يداه نائمتان فى جيوبه, كتفاه منقبضان على رقبته. سمع المؤذن يقيم الصلاة, فأسرع خطاه, متحاشيا تجمعات الوحل والماء, وقف عند باب المسجد يخلع نعليه, التصقت بهما كومة كبيرة من الطين الناعم المختلط بعيدان القش. لايفصل بينه وبين السجادة الخضراء سوى تلك العتبة كأنها البرزخ..
 دخل مسرعا يلهث فتندفع من فمه زفرات ضبابية. لم يكن يوجد سوى صفين والثالث غير مكتمل, وقف فى الجانب الأيسر المواجه لباب المسجد, وعقد ذراعيه إلى بطنه وحاول الإنصات والتركيز فى الآيات التى يتلوها الإمام. كانت قد مرت فترة طويلة لم ينبس فيها ببنت شفة فعلق فى حلقه غشاء من البلغم, فحاول أن يخرجه بأن يدفعه من حلقة, ففعل "إحِمْ" مرة أو مرتين ثم فعلها بعده رجل آخر كان فى الجانب الأيمن من الصف الأول وردد ثالث كان فى الوسط فى الصف الثانى, بطريقة عفوية, ثم صمتوا...الشيخ يتلو إحدى الآيات.. لاحظ أنه مازالت بقايا الغشاء عالقة فى حلقة, ففعل إحم مرة أخرى وردد خلفه اثنان فى نفس الوقت تقريبا- كأنهما صداه, أحدهما بجواره والآخر يقف خلف الإمام, ثم صمتوا...الشيخ يتلو إحدى الآيات... كان أمامه شخص قصير ضامر العود, يرتدى سترة قطنية بالية داكنة اللون, وبنطال قديم من القماش البنىّ. شعر رأسه قصير من النوع الخشن الملتف, يستطيع رؤية ذقنه الكثّة وحواف نظارته السميكة, كان يرتجف باستمرار,  وأنفاسه المتلاحقه تشبه النشيج حتى كانت أحيانا تسحب معها بعض الكلمات والحروف بدون عمد, انتهى الإمام فحلّ ذراعيه وركع, وركع خلفه المصلين. طالت الركعة:
الضامر: سُبْحَـ..(نشيج)..عَظِـ..(نشيج)... سُبْـ....(نشيج)... ثم فجأة انطلقت من بين أليتيه -فى وجه الآخر- صوت يعرفه كل الناس, برائحة يعرفها كل الناس, قطع الصلاة وذهب مسرعا إلى الحمام. كانو ساجدين حينما سمعوا صوت الصنابير تعود إليها الحياة والمياه ترتطم ببلاط الحمام.
عاد مسرعا ووقف مكانه, ازداد نشيجه وزفيره وشهيقه, وقطرات المياه تسقط من رأسه على وجهه ومن وجهه على الأرض.
أما الآخر فقد انفرط من قلبه الخشوع, ومقلتاه تدور داخل محجريهما من الذهول وغرابة الموقف...
سلّم الشيخ يمينا ويسارا, وكذلك الناس فعلوا, ثم تحررت حناجرهم, وأخذ كلٌ يسلم على جاره ويدعوا له بالقبول.
وقف الضامر, وتوجّه يمينا ثم انحنى وسلم على الشيخ فى صمت, نظر إليه الشيخ وسلم عليه, ثم ذهب الضامر إلى أقصى يمين الصف الأول, وأخذ يسلم على كل من فيه, مازال عوده الضامر منحنى, وقطرات المياه ساكنة على جبهته متعلقة بشعر ذقنه الكثة تلمع فى وجه المصابيح  البيضاء كجُمانٍ منثورة على قطع البُرادة, ويسلم حتى انتهى من الصف الأول فى صمت, ثم كرر ذلك مع الصفين الباقيين, ينظرون إليه, كأنهم لايعرفونه..
ثم خرج الضامر من المسجد وجلس على عتبته يربط حذاءه, الناس خلفه تنتظر....
انتهى ثم وقف ومشى حتى منتصف الشارع, وتوقف كأن السكون قد أصابه, ثم خرج الناس يلقون نعالهم الثقيلة, وخرج الآخر يرتدى نعليه ثم سار عائدا, قطع الضامر سكونه ثم انطلق يقفز قفزات أرنبية, توقف الآخر ناظرا إليه وهو يعدو بعيدا حتى التف داخل عباءة الظلام المكفهر كمن يذوب فى مطر الليل...