الصفحات

الجمعة، 15 أغسطس 2025

دروس في فن الكتابة - نماذج من صلاة القلق


استوقفتني الرواية مرات عدة أثناء قراءتها لثغرات فنية لا أحسب أن أجدها في رواية كبيرة، وقد خدعتني الجائزة بهذا الانطباع وأنا مقبل على شراءها.
قمت بتدوين بعضها، وكتابة البعض الآخر على هوامش الكتاب، وكانت نوع من التسلية شجعتني على إتمام قراءتها، لأني أعد عدم إتمام قراءة كتاب ما نوع من أبغض الحلال، مع ذلك فليس كل شيء مدون؛ فقد تجاوزت عن الكثير كسلا، ويأست من البقية.

فهذه كانت البداية…

"فلم يجد رأسه بين كتفيه"

استخدام الفعل "يجد" في هذا السياق لا يحمل الصورة التي أرادها الكاتب، والجملة بكلماتها لا توحي بصورة بلاغية، عندما قرأتها أول مرة فهمت أنه فعلا استيقظ ولم يجد رأسه بين كتفيه، واعتقدت أنني أقرأ رواية فانتازية!
*بالمناسبه، لهذا خُلقت الترادفات في اللغة.

"يحاكي في خموله السلاحف"

التشبيه هنا لا يراعي بيئة المشبّه، فليس معنى أن كائنين اشتركا في صفة ما أن أحدهما يستطيع الإنابة عن الآخر في صورة بلاغية، فبدون علاقة ضمنية بين المشبه والمشبه به، تصبح الصورة باردة ومفتعلة. سوف يتحقق هذا الشرط في صورة أخرى أتحدث عنها لاحقا.

"طالت الليالي كأنها ليل واحد ممطوط وشعر الشيخ بأن ثمة أمرًا جللًا يمنع الشمس عن البذوغ فظل يناجي الله أن يهبه كرامة من كرامات أبيه"

غير مفهوم إذا كانت الجملة واقعية (نحن في بداية الرواية ولا نعرف في أي اتجاه تسير؛ أواقعية أم فانتازية) أو استعارة يُراد بها الأمل، مستعينا بالشمس ضد الليل- الصورة النمطية للأمل مقابل اليأس. خصوصا التعبيرات والألفاظ المستخدمة قصيرة ومباشرة فتوحي بواقع لا خيال.


"الممثل الرسمي"

لا نعرف ما طبيعه وظيفه "الممثل الرسمي" لنجع وهو وصف غير دارج في الريف على عكس العمدة مثلا، الذي لا يحتاج إلى تفسير. تندرج هذا المشكلة تحت بند الحبكة المبتسرة.


"يحج إليها أهل النجع ويطوفون حولها يوميا"

حالة غريبة ومحل أسئلة كثيرة لكنها تمر مرورا عاديا؛ فكيف اتخذ أهل النجع هذا المكان محل نفس الموقع الديني للكعبه عند المسلمين، ما طباعهم؟ وكيف يدينون؟ وكيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟ - تندرج هذا المشكلة تحت بند الحبكة المبتسرة.

"وأضحت النسوة صموتات كالربابة المبتورة الأوتار في دار شواهي"

هذه صورة موفقه في تكوينها وبخاصة في استعارة المشبه به (الربابة) من بيئة المشبه (راجع تعليق سابق).

"تصنع الرجلان الاقتناع"

كيف يكون "تصنع الاقتناع" وبخاصه في موقف عاطفي كهذا الذي نحن بإزائه؟ هي على الأرجح تصور حالة الارتباك الجارية بين الشخصيات لكن بصورة غير ناضجة، عاجزة عن الإتيان بما هو أعمق من "تصنع الاقتناع".

"قرر عقلي أن يسقط الأحداث من ذاكرته"

ما الفائدة الفنية/البلاغية من منح العقل هذا الدور السردي؟ لا أرى حاجة فنية في تجسيد العقل، بل أرى تقسيم البطل إلى شخصيتين؛ واحدة أساسية (العقل) والأخرى ثانوية (البطل نفسه)، تضعف تكثيف الحالة، وتنقل القارئ من التركيز على البطل- محل الحدث، إلى التركيز على شخصية طارئة.

"وريقة صغيرة تحمل أمرا بتسليم حياة شاب إلى المجهول"

هذه كلفة في التعبير ومبالغة في التضخيم لا داعي له. هناك شقين في الحدث محل الوصف: الفعل ورد الفعل، الفعل هنا خارج عن إرادة الشخصية وهو مجرد عن الظروف (وريقة مكتوب فيها أمر بتسليم الشاب)، أما رد الفعل فهو ما تملكه الشخصية، لكن الكاتب بالغ وهول في الفعل ذاته كأن الكاتب هنا طرفًا ثالثًا يحكم على الأمور، لا الشخصية الأساسية التي سيتكثف الفعل فيها في رد الفعل، لا أن يكتسب الفعل قيمته من رد الفعل، أما رد الفعل فهو اختزال تجربة الشخصية؛ تاريخها ومكنونها من تراكمات الزمن.

"يتزامن"

استخدام الكلمة التقنية (يتزامن) تطفئ شاعرية الجملة ببرودتها ودقتها.

"...ثم باع - في عُجالة - بضعة قراريط يملكها، وغاب عن النجع أسبوعين مرا علي كدهر ، أربعة عشر يوما أمضيتها أكفكف دمعي بطرف جلباب هنادي حتى عاد الخوجة في سيارة فولكس…"
هذه الفقرة تحوي حدثين غير مترابطين تقريبًا والحدث الثاني- الثانوي، أُقحم مثل الجملة الاعتراضية، وهو في الحقيقة ليس حدث وإنما نجوى، دخولها غريب مع الحدث الأصلي. ربما كان على الكاتب إعادة ترتيب الجمل، او الاستعانة بأداة الحذف المهملة في أجزاء كتيرة من الرواية.

"وَإِنِّي بَاعِثٌ بَيْنَكُمْ نَاصِرًا يَوْمَ…"

ربما هذا أفدح الأمثلة على الحبكة المبتسرة، فقد انتهيت من قراءة الرواية ولا زلت لا أعرف كيف تطورت الأحداث وصولاً إلى إيمان القرية بآيات مفبركة وبعلم شيخها الذي لم نر منه ما يؤيدها. التفسير الوحيد الموجود في الرواية هو أن خليل الخوجة دسّ هذه الآيات المفبركة في كتاب الله!

"سيلان من الأفكار والتخيلات يطوف في عقلي ويتشكل أمام عيني"

كلام مرسل لا فائدة منه؛ غرضه الحشو، لو حُذف ما تأثرت الحبكة في شيء، مرة أخرى فإن أداة الحذف مهملة - أهم أدوات الكتابة عند الكاتب.

"ولكنهم بكل بساطة لا يستحقون"

تعبير "بكل بساطة" يدخل في باب الحشو، لعدة أسباب، أولها لو حذف لما تغير معنى الجملة في شيء، لكن الأهم وما استوقفني حقا هو سطحيتها، عاديتها، ومصدر نشوءها في حواراتنا العامية التي لا تحمل معنى سوى تأكيد فارغ وثقة في النفس غير مؤثرة وجميع هذه الأسباب ما ينعكس سلبًا على ما أسمّه في رسم الشخصيات القصصية ب "الشخصية الذكية".

"صمت الصبي برهة فاضطرب جوفي"

رغم أنه مفهوم ما يريد الكاتب إبرازه من ربط صمت الصبي بقلق الشخصية، إلا أنه في الحقيقة ليس الصمت نفسه هو ما يجلب القلق وإنما مشاعر أخرى أكثر تعقيدا من الصمت، لم ينجح الكاتب في اقتناصها واكتفى بما هو ظاهر على السطح.

"والحق أني كنت أبحث عما يطمئنني"

إن كان غير قادر على منح الاطمئنان، فإن الجملة التي تسبقها: "وضعت يدي على كتفه أطمئنه"، غير حقيقية وتحتاج إلى إعادة فهم دوافع الشخصية.

"بل إني نسيت لوهلة مولودي المنتظر"

موضعها غير مناسب للتعبير عن الطمأنينة وقد أقنعنا الكاتب بتوقه إلى هذا المولود.

"لكني ما لبثت أن شعرت بطمأنينه حذرة"

التذبذب بين مشاعر القلق والطمأنينه تكرر بشكل سطحي حيث كان عليه إخبارنا نصا أنه يشعر بكذا، لكن في الواقع لم نرَ كثيرا ما يدفع لذلك.

"ففي غياب النور تتلاشى الظلال وتندثر"

فلسفه فارغه لا معنى لها في هذا السياق. 

"هذا الجنين نبيٌّ لا ريب"

قفزة واستنباط عجيبين بلا مقدمات منطقية.

"انسكب الأسود على صفحة السماء"

لا نستشعر صورة جمالية مضافة بتمثيل السماء بلوحة تبدأ باللون البرتقالي (الصفحة السابقة) وتنتهي بالأسود، لو كان وصفا كما هو لكان ذا قيمه أكثر (انظر الصفحة التالية). ناهيك عن استخدم الفعل "انسكب" الذي لا يناسب حركة التحول اللوني في السماء.

"لم يستقر رأيه بعد على الآيات والأدعية التي سوف يتلوها، لكنه قرر…"

حشو - طالما قرر، لا قيمة لذكر تردده.

"أنتظر الفارس"

إكليشيه الفتاة الحالمة التي لا يليق بامرأة خبيرة جاوزت الثلاثين (هي غالبا في الأربعينات) والفقرة كلها إكليشيه متوقع.

"يا خوفي من أمك تسألني عليك…"

عند هذا الحد أجد أنه لم يكن من داع لاحتكار الفصحى لمناطق الحوار في الروايه طالما الشخصيات تفكر بالعامية. قد نبرر وجود مثل هذا التناقض وجوده في روايات مثل روايات نجيب محفوظ، لكن المقارنة ظالمة.

"رأيتني كعروس"

استمرار استهلاك الإكليشيه حتى في أثناء الانفجار واقترابها من الموت، لا مبرر له غير نضوب الخيال حول تصور ما يمكن أن يجري في عقل الشخصية في هذا الظرف.

***

فيما يلي تعليقاتي على باقي هوامش الصفحات من دون نقلها، لأني تعبت…



































































في الختام

هذه هي طريقتي في قراءة النصوص الأدبية، وهي مقياسي الوحيد في الحكم على النصوص، حتى أن موضوع الرواية لم أتطرق إليه، لأنه من العبث أخذ الموضوع على محمل الجد، بدون وجود أسس الرواية السليمة. عندما أقرأ نصوص مثل هذه، فإني وبشكل آلي أستدعي روايات نجيب محفوظ التي تُعجز من يبحث فيها عن مثل هذه الأخطاء فهي المثال في الكمال الفني، وهي ما تمنحني ثقة في أن مثل هذا الكمال موجود، وأنه المقياس.