عندما طلب عم عبده الشرطة كان الكشك قد تحطم بالكامل وجثة ترقد بالخارج، قد لفظ أخر أنفاسه منذ ساعتين، وصلت الشرطة وبدأت في استجواب عم عبده:
- كم تقدر حجم خسائر البضاعة في الكشك؟
كان عم عبده قد جهز رقمًا، قال:
-ألفين وخمسميت جنيه
في ذلك الوقت كان تجمهرًا آخذًا في التزاحم حول الجثة، فعطَّل الطريق، فانتبه المحقق الذي قطعت أصوات أبواق السيارات تحقيقه مع عم عبده، فذهب بنفسه لينتبه له العسكري المصاحب الذي انتفر من موقفه الراكن بجوار أحد أعمدة التندة التي سقطت عند سقوط الصريع، ودب نشاط في ذراعيه لتبطشا في المتجمهرين، بعد وقت قليل استطاع فتح طريق للسيارات، وهدأ صوت الغضب من أبواقها.
عاد المحقق:
- كم سعر التندة؟
- حوالي ألف جنيه
- الخسارة المقدرة إذن تلتلاف وخمسميت جنيه؟
- أيوا
انفضّ التجمهر وبقت الجثة وحيدة على قارعة الطريق.
جاء الابن الوحيد لعم عبده صاحب الثلاثين عام، واسمه إبراهيم مندفعًا مفجوعا بالمأساة والخسارة التي حاقت بمصدر الرزق الوحيد للأسرة، لكن ما أن وقع نظره على رجل الشرطة حتى تعقلنت ثورته، ضرب بكفيه إثر رؤيته آثار الخسارة، متنقلا بنظراته بين كراتين الشيبسي وأرغفة العيش وزجاجات العصير والمياه الغازية، والبيض والحلاوة، والزيت الذي وثق حركة أقدام الداخلين والخارجين إلى الكشك. ولسبب ما اختار الشمعدان من بين كل هذه البضاعة وقال متأثرًا:
- حتى الشمعدان!
انتبه له المحقق الذي طلب منه الابتعاد، لكن عم عبده أخبره إن ذاك ابنه.
بدأ المطر في السقوط في الخارج، لكن وقع صوت ارتطام حبات المطر بأكياس الشيبسي موقعا حزينًا في نفس عم عبده، فتجسدت أحزانه، بينما جلس إبراهيم على أحد صناديق الكوك كولا، غير بعيد عن موقع الجثة التي شفّ المطر وجهها من تحت الملاءة البيضاء وفمه مفتوح لزخات المطر.
ثم وكأنه تذكر شيئًا، بينما يحدّق في الجثة ويسبها في نفسه، انتفض إبراهيم من على الصندوق، وقال للمحقق:
- طيب مين يعوضنا الخسارة دي؟
جاء صوت والده كلحنٍ حزين على خلفية مشهد درامي:
- عليه العوض ومنه العوض.
قال المحقق:
- بنجرد الخساير وهيتم تقدير التعويضات.
كانت مجموعة من الكلاب تحوم حول الجثة فاشرأب المحقق نحوها ليتأكد عدم نيتها الاقتراب، فخرج العسكري يهش وينش كما يفعل مع ذباب المكتب. ابتعدت الكلاب وعاد العسكري يتسند واقفا على عمود التندة وهو يدخن.
عاد المحقق لمجرى التحقيق:
-هل لديك مصدر رزق غير هذا
-لا والله
فجأة قطع الهدوء صراخ العسكري وهو يقول "هش، امشي ابعد". فتحولت نظراتهم من داخل الكشك لما يحدث في الخارج، كانت الكلاب تحاول جذب الجثة من القدمين، لكن نجح الشاويش في إبعادها بالحجارة بعد أن استطاعت زحزحة الجثة مقدارا ليس قليلا حيث لم تعد في مركز مدخل الكشك من الخارج.
قال المحقق بعد أن اطمئن لاستتباب الهدوء في الخارج:
- نحتاج إلى استجواب الشهود
تواصل مع العسكري الواقف بالخارج الذي دخل وفي عينيه وأرنبة أنفه احمرار شديد، أمره المحقق بإحضار الشهود.
بعد قليل دخل رجل ستيني في عينيه احمرار، وفي وجهه حزن وجفاف. تواجه مع المحقق الذي سأله:
- كيف عرفتم بالحادث؟
- سمعنا صوت انهيار في الطابق السفلي.
- ما علاقتكم بصاحب الكشك عبده إبراهيم؟
- كل خير
- هل أنتم على علم بحجم الخسائر؟
- لا، لكن هل...
فجأة انفجر المشهد إثر عواء عصابة الكلاب التي نجحت في خطف الجثة وفرّت بها هاربة، فهرع المحقق وراءها غير واعٍ، ثم تبعه العسكري الذي فاق من النعاس، ومن بعدهم الرجل الستيني يحاول إنقاذ جثمان ضيفه الذي زاره منذ الصباح.
نجح ثلاثتهم في استرجاع الجثة بعد أن عرقل حجر طريق الكلاب.
عادوا بها حملًا على الأعناق إلى مركز مدخل الكشك، وقامو بتغطيتها بورق الكرتون، بدلا من الملاءة القماش التي ضاعت في الطريق.
كان المحقق جالسًا يحدق في الأرض، يفكّر بعمق، يفرك يديه من آثار الطين العالق بملابس المتوفي، ثم رفع رأسه بخفّة بعد ثقل، وقال:
- هنوزن الجثة
وأشار للعسكري نحو ميزان الأجولة القائم في ركن الكشك البعيد، أحضره العسكري تحت قدم المحقق. لكن انفجر الرجل الستيني:
- يا سعادة البيه دا إسمه كلام! فين حرمة الميت، ميجوزش الكلام ده والله.
هنا تصدى له إبراهيم الذي قال بشكل قاطع:
- وفين حرمة الحي يا عم عبد الحي؟
خرج عم عبد الحي غاضبا، توقف عند جثمان ضيفه، قرأ الفاتحة ثم رجع إلى حيث كان.
تعاون إبراهيم مع العسكري في حمل الجثمان، صعدا بها الدرجتين اللتين تفصلان الكشك عن الشارع، وسارا بهدوء إلى داخل الكشك، لكن انزلقت قدم إبراهيم في المقدمة بسبب زيت الطعام، ففقد توازنه ليسقط وفي إثره سقط العسكري والجثة.
وضعوا الجثة على الميزان لتدب الحياة في مؤشره، حتى استقر عند الرقم ١١٢. فتوجهوا بنظراتهم المتسائلة نحو المحقق الذي كان يفكر بعمق. قال وهو ما زال يفكر:
- وزن ثقيل على التندة
فرد عم عبده:
- وحضرتك كنت مفكّر إننا بنتبلّى على الجثة، ما هي سبب المصايب دي كلها.
- مبتتبلاش، لكن الكلام بينا حاجة واللي هيتكتب في التحقيق حاجة تانية.
في هذه اللحظة انبثق من صمت الليل صوت سرينة بوليس، تقترب في سرعة وثبات، وما مرت لحظات حتى توقف بوكس خارج الكشك، بالكاد استطاع تفادي الجثمان، وخرج منه طاقم شرطة مكونًّا من أربعة عناصر، ذهب المحقق لاستقبالهم، تفحص أحدهم الجثة وانتظر البقية، وحين انتهى تجمعوا في دائرة ليجري حديث خافت بينهم، لا يُفهم منه شيء سوى أنها أمور خاصة برجال الشرطة. ثم انتهوا إلى اتفاق على شيء ما، واستقلّت كل مجموعة سيارتها، ورحلوا عن المكان، وكان عم عبده يشاهد كل ذلك، من دون أن يفهم شيء، خرج إبراهيم، وتوقف عند رأس الجثة، وهو يتابع انسحاب السيارات. حتى خلت المنطقة.
"هم راحوا فين؟" - سأل عم عبده من داخل الكشك بلا حراك، مصغيًا للسكون في انتظار مفاجأة أخرى، "مش عارف" قال إبراهيم وقد أصابه تيه أخضعه للسكون.
ثم جاءت الكلاب وأخذت الجثة بثقة كأنها اطمأنت لعدم وجود الشرطة، سحبها كلبان من القدمين، بينما تبعهما كلبان كبيران كأنهما يؤمنان عملية الاختطاف.
بدأ عم عبده في تنظيف الكشك، بينما قام إبراهيم بجمع الكراتين والعلب الملقية أمامه.