الصفحات

الاثنين، 24 أغسطس 2020

غرام

 كانت العمة مغرمة باسم أحمد، فهو اسم زوجها، الذي أحبته بشدة وفارق الدنيا في عمر مبكر.

تحول حبها إليه تدريجيًا إلى حالات فريدة من الحب للأشياء المتعلقة به، مثل حب العباءات الصيفية المطرزة، وحب أكلة الفتة وحب التمشية ليلا حول المنزل، وكلها أشياء كان مغرم بها الفقيد، رغم أنها لم تكن بالضرورة تشاركه حب هذه الأشياء، لكنها قاومت فراقه الصعب باستحضار روحه فيها.

تميزت فترات معينة من حياتها بطابع خاص. لكن تبقى فترة الغرام باسم أحمد هي الفترة الأكثر تأثيرًا في عائلة سوف يُسمى جميع أفرادها أحمد.

كانت تتميز بشخصية قوية، وجسد نحيل، أضاف لصفة النحول بشكل عام صفة قوة الشخصية في أذهان كل من عاصروها.

يوم أن ولدت جارتها وكانت بينهما رابط صداقة قوية، كانت محتارة بين اسمي إبراهيم أو جلال لوليدها، وقد ترك لها زوجها حرية الاختيار، فتدخلت العمة وقالت ليكن أحمد. لكن الجارة اعتبرته اقتراح غير موفق لم يراعي اسم الأب أحمد. لكنها أقنعتها بطرق كثيرة لن يصعب الوصول إليها، مثل الرنين الموجود في أحمد أحمد، وغنت أغنية لعبد الوهاب بنفس الرنين تقريبا. وكان أيضًا من ضمن حججها (الغير دقيقة) أنه من الندرة أن يوجد مثل هذا الاسم، وسوف يسهل الوصول إليه في السجلات الحكومية وخلافه. نجح إصرارها وقوة حجتها في نظر جارتها في أن يزيحا اسمي إبراهيم وجلال من المنافسة، واقتنعت الجارة التي قالت في النهاية:

  • والنبي اسم حلو حتى على اسم الغالي

وخفق قلب العمة بحنين لم تظهره.

عندما رجعت البيت في هذه الليلة أخذت تتمشى حول البيت مستحضرةً تمشيات الفقيد الذي تمثّل أمامها عدة مرات، حتى أنها انتبهت لخصلات من الشعر الأبيض أعلى جبينه، فقالت:

  • عجزت يا أحمد

رد عليها وقال:

  • وحشتيني يا زينة

وسُمع بكاءها في أحد جنبات حوش المنزل الواسع، مختلطًا بأصوات الضفادع التي ترن على أسطح غيطان الأرز الممتدة إلى أفق بعيد، وبصدى له جلال لم يتأثر بالزمن أو بفقدان الأحبة.

أخذ حبها لهذا الاسم أبعادًا جديدة، أوقعها في مشاكل أحيانا مع بعض أقاربها، فهذه عبلة بنت عمها، ولدت أول صبي بعد انتظارخمس سنوات تخللتها ستة بنات، حاولت إقناعها تسمية الصبي أحمد، لكن ضجر منها زوجها الصلف في النهاية، وحدث اشتباك سريع تخلصت منه بذكاء، انتهى ب:

  • يا خويا أحمد ولا عوض أهو ابننا وابن حبايبنا في الآخر، يتربى في عزكم يارب.

وأخذت تبكي في تلك الليلة في حوش منزلها شاعرة بألم فراق وقسوة، ولم يأت أحمد لمؤانستها.

فهذه حياتها تشكلت هزائمها وانتصاراتها بعد فقدان زوجها بعدد من سُمي أحمد بفضلها. ومجملًا نستطيع أن نقول أنها انتصرت انتصارًا غير مسبوق في هذا السياق. وأصقلت خبراتها في هذا المجال النادر، ولم تنس زوجها أبدًا وبدأت ذكراه تتجسد بوضوح، عامًا بعد عام، واستعادته في حياتها بشكل شبه كامل، وللحفاظ على هذه الصورة كانت لا تتوقف عن تحويل كل من حولها إلى أحمد.

وذات ليلة وهي جالسة في حوش المنزل وأحمد يشرب معها الشاي، تجاذبا أطراف الحديث سويًا، واستعادا ذكريات قديمة لهما في هذا الحوش، وأخذت تضحك بصوت عالٍ مزيحة كوب الشاي من على شفتها سريعًا، عندما ذكّرته بالضفدع الذي قفز من مقطف البلح الذي اشتراه لها وقفز في حجره وهو نط مذعورًا، وقضا ساعة يلملمان حبات البلح في ضحك وبهجة. وهو ضحك أيضًا من هذه الذكرى. وعندما فرغت من كوبها، استأذنته للنوم وأخذت كوبه معها، وقالت وهي تدخل من الباب:

  • هأغسله لك عشان بكرا، تصبح على خير.

وجاء يوم مولدي، وقد اتفق والدي على تسميتي مروان من الشهر الأول لحمل والدتي، رغم علمهما بما سوف تحاوله عمتي العجوز. المهم ولأسباب غير واضحة تغير اسمي إلى أحمد، لم تكن الأسباب التي قيلت لي واضحة، فهناك عشرات الأسباب اختلطت جميعها ببعض، لا أعرف أي منها لي وأيها لأولاد أعمامي وأقاربي، ففي رواية ينقلها أقراني في العائلة ممن سمّوا أحمد، تقول أن زوج عمتي ظهر لأبي ليلة مولدي، لكن أبي يرفض هذا السبب ويسخر منه، ورواية أخرى تقول أن أمي لم تستطع رفض طلب عمتي التي تجلها، وأقنعت بدورها أبي.

عاشت عمتي بين كل من أسمتهم أحمد وكانت تحبنا، للقرابة وللاسم. وهكذا لم تغب صورته عنها أبدًا، وكانت زياراته لا تتوقف أبدًا كل ليلة، وكوبيّ الشاي يدخلان أول الليل ويخرجان في آخره، بعد انتهاء الزيارة.

في ليلتها الأخيرة سيغيب زوجها عنها، لأنها اختارت ألا تستحضره، لقد كانت متعبة ومتلهفة.