الصفحات

الاثنين، 14 ديسمبر 2015

أعظم سيمفونية، أعظم كونشرتو... تفضيلاتي في الموسيقى الكلاسيكية


تأتي الموسيقى الكلاسيكية في عدة أشكال Forms، أشهرها السيمفونية والكونشرتو، وهما شكلان في قالب السوناتا الذي تبنّاه المؤلفون ليضيفوا ويعدلوا عليه لما له من مدىً واسع من الحركات تتراوح بين السرعة والبطء، السوناتا هي معزوفة لآلة واحدة مثل البيانو أو الكمان، أشهر السوناتات على الإطلاق هي سوناتة بيتهوفن ضوء القمر moonlight، أما القالب الذي صيغت فيه السيمفونية والكونشرتو، فهو مجرد الشكل الذي يضم الحركات الأربع في حالة السيمفونية، أو الثلاث في حالة الكونشرتو، باختصار فإن السيمفونية هي سوناتة تعزفها الأوركسترا، أما معزوفة السوناتة نفسها، فتعزفها آلة منفردة. هناك أشكال أخرى مثل الافتتاحيات، المارش، السويت، الفالس، الثلاثي، الرباعي، والخماسي (إشارة إلى عدد الآلات المُستخدمة).. أو ما يُصطلح عليه موسيقى الصالون، التي تطورت في ظل حاجة الطبقات الأرستقراطية لمعزوفات وترية تُعزف جانبًا في الحفلات والأمسيات، عادةً يفضل الناس الموسيقى الكلاسيكية وحسب بعيدا عن القوالب، ففي النهاية القالب هو الشكل المفضّل لدى المؤلف الذي يصب فيه قدراته وموهبته، ليخرجها على أفضل وجه، والمؤلفون عادة ما يحبون التجريب، ومعظمهم لهم إسهامات في كل شكل. حين نتحدث عن إسهامات المؤلفين في الموسيقى الكلاسيكية، فنحن لا نشير فحسب إلى معزوفات جميلة تلمسنا بشكل أو بآخر، ولكن على وجه الخصوص فيما أضافه للموسيقى الكلاسيكية جعلها تتقدم إلى الأمام، لذلك فإن بيتهوفن وفاجنر يتربعان على عرش الموسيقى باعتبارهما من قادا أبرز حركتي تطور في مسيرة الموسيقى الكلاسيكية، أمّا موزارت وفيفالدي وشوبان وشومان إلى آخر هذه القائمة من عظماء الفنانين، فهم وإن ضافوا أيضًا الكثير، إلا أنهم شكلوا ملامح الفترة التي ألفوا فيها.
يُشار عادةً إلى بيتهوفن على أنه نصف كلاسيكي- نصف رومانتيكي. فهو الذي تسلّم راية الكلاسيكية بعد موزارت وهايدن، وبدوره سلمها لفاجنر لتكون جاهزة للهزّة الرومانتيكية، فأوصلها فاجنر لحالة يستحيل بعدها تطورها، فجاءت التأثيرية استجابة لقانون التطور والفنون.
لتكون الأمور واضحة بين الكلاسيكية والرومانتيكية، فهذا المقارنة الموجزة بين المدرستين، هي أبسط ما قرأت في هذا الموضوع:
"الأسلوب الكلاسيكي هو الذي يقوم على إظهار الفن نفسه، ويتنزّه فيه الفنان عن شخصه والظروف المحيطة، ويسمو ويصفو ويهذّب تعبيراته، ولا يهتم بشيءٍ في العمل الفني قدر اهتمامه، بتحديد هذه التعبيرات وإبرازها في إطار من الأنظمة والقوانين؛ بينما يقوم الأسلوب الرومانتيكي على رفع القناع عن شخصية الفنان وأفكاره ونفسيته كما هي. ويبرز فرديتها بتجاربها وعواطفها. وفي كلمة واحدة يرتبط الأسلوب الكلاسيكي بكلمة "رسم" design في حين يرتبط الرومانتيكي بكلمة "عاطفة" emotion." من كتاب "الموسيقى الكلاسيكية"، تأليف: صالح عبدون 

وكمثال على الكلاسيكية، فهذه السيمفونية رقم 40 لموزارت، يمكنك تلمس فيها المعنى أعلاه؛ سمو المشاعر والمعاني، لدرجة من المثالية، وذلك الهدوء الذي يشبه التنزه في حقل إنجليزي في القرن الثامن عشر:



هذا كونشرتو الفلوت مع الهارب، من أجمل المقطوعات:

أما السيمفونية الخامسة لبيتهوفن ، فمن أول وهلة يمكنك استشعار هذا القلق المتصاعد، وكأنه صراع بين الفنان وآلامه أو عجزه (وقد ألفها في فترة تدهور سمعه)، ومع تقدم السيمفونية بحركاتها، يصل بحدة معركته إلى ما يشبه الانتصار.
يقول بيتهوفن بنفسه عن هذه السيمفونية (في حوارٍ أسرّه إلى شاندلر صديقه): "هذه ضربات القدر يطرق على الأبواب"

كان بيتهوفن قد ألف سيمفونيته الثالثة "البطولة"، ناويًا أن يهديها إلى نابليون بونابرت الذي آمن به باعتباره ممثلًا لقيم الثورة الفرنسية، لكن ما أن أعلن نابليون نفسه إمبراطورًا حتى عدل عن هذا الإهداء، وقدم السيمفونية إلى راعيه الأمير جوزيف فرانتس لوبكوفيتز.

ولأني لست من هواة الأوبرات التي كتب فيها فاجنر معظم أعماله، فإن هذه المقطوعة من أوبرا فالكيري هي المفضلة بالنسبة لي:

قلنا أنّ بيتهوفن سلم فاجنر راية التطور لتنتقل الموسيقى من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية، إلا أنه ورغم هذا الاجتياح الرومانتيكي، كان هناك من ظل مواليًا محافظًا على القواعد الكلاسيكية دون أن يغريه هذ الحماس الرومانتيكي، أتكلم عن يوهان برامز، الذي شهد نجاح فاجنر وأوبراته، لكنه مع ذلك ظل محتفظًا بولهه بالكلاسيكية على أصولها القديمة. ومثله مثل فرانز ليست فقد ألّف رقصات هنغارية بديعة:

وهذه نسخة ليست من الرقصات الهنغارية:

هناك بعض الفنانين الذين منحوا الموسيقى مقطوعة أو أكثر كافية لتخليدهم، إنهم من هذا النوع الذي كنا سنقول عنه: "لو لم يؤلف سوى هذه لخلّدته"، من هؤلاء الذين ضمنوا لنفسهم الخلود بواحدة من أندر السيمفونيات هو التشيكي دِفورجاك، بسيمفونيته عالم جديد، أستمع إليها كثيرًا وفي كل مرة أشعر كأني أسمعها لأول مرة، لهذا فهي عالم جديد دائمًا:

في الحقيقة ألف ديفورجاك غير هذه السيمفونية، لكن لن تستطيع واحدة أن تبزّها أبدًا.. مؤلف آخر ممن ألفوا القليل الكافي لتخليدهم هو موريس رافل، ومقطوعته الشهيرة هي بوليرو، أشعر دائمًا أنها من نوع مارش، لكن الظروف التي كُتبت فيها تحول دون هذا المصير، فقد كُتبت للباليه ولم تؤدّ، هذه المقطوعة مؤلفة من نغمات بسيطة تتكرر المرة تلو الأخرى بدون ملل، كأنها حفيف شجر أو لطمات موج أو نسيم عليل، كل هذه المقطوعات الطبيعية نستمتع بها رغم أنها تتكرر على نحو أبدي بلا ملل، الفارق الوحيد أن رافل جعل مقطوعته أكثر قلقًا وانتظارًا لمصير هذا التكرار الأبدي، الذي يتصاعد نحو ذروة مجهولة:

لازال هناك شومان وشوبان وشوبيرت، يجمع بين هؤلاء (غير حرف الشين طبعًا الذي يبدأ به اسم كل منهم) أنهم تخصصوا في آلة البيانو، وبرعوا فيها، وليس غريب أنهم يتمتعون جميعًا بحس رهيف رقيق- أهم ما يميز شخصية البيانو.
ألف شومان هذا الكونشرتو والذي صار مرجعًا لكثير من الرومانتيكيين، ليصيغوا عليه أعمالهم من الكونشرتو مثل رخمانينوف:

أُصيب شومان في نهاية حياته بمرض عقلي، حتى أنه ألقى بنفسه في نهر الراين، أنقذه المارة، ثم أُدخل لمصحة عقلية، لم يخرج منها إلا إلى القبر.

هذه المقطوعة أشهر ما ألف شوبيرت


رغم أن آلة البيانو تهافت عليها الكثيرين، وأبدعوا فيها، إلا أن شوبان يقف كمعجزة اقترنت بهذه الآلة، ألف الفالسات والنوكتيرن وله كونشيرتو بديع. تجلّت موهبة شوبان الفذة منذ طفولته، وشهد الجميع له بعبقريته، وقد ألّف هذا النوكتيرن في حوالي العشرين من عمره:

هذا الكونشرتو بعزف يفجيني كيسن:

لو أننا عدنا بالزمن للخلف قليلًا للبحث عن أصول هذا الفن العريق، لوجدنا يوهان سباستيان باخ هو قائد كل هذا الأوركسترا البديع، بما قدمه للموسيقى الكلاسيكية من تجديد، فهو يعتبر من نقل الموسيقى من حقبتها الباروكية إلى الكلاسيكية الأكثر نضوجا، بما أدخله من توليفات جديدة تمامًا بمهارته الهارمونية والكونتربانطية، ولو أننا أيضًا بحثنا عن سر هذه الموهبة لوجدنا أن تدينه المسيحي هو الذي أصقل روحه بهذه الخفّة والانسيابية في الألحان، من أهم أعماله كونشرتوهات براندنبورغ:

وله توكاتا مشهورة للأرغن:

ورغم هذه المكانة العظيمة التي يتمتع بها باخ في تاريخ الموسيقى إلا أنه عُد في فترة قديم وغير مناسب مقارنةً بما أنجزته الموسيقى في ذلك الحين، إلى أن أعاد مندلسون البحث في تراثه وأحياه، ومنذ ذلك الحين وباخ يتمتع بمكانة فريدة وأستاذية يرجع إليها الكثيرين في أعمالهم. ويعد هذا الإنجاز لمندلسون من أهم ما يُذكر له بجانب أعماله العظيمة طبعًا.
هذه المقطوعة لمن يبحث عن الهدوء في الموسيقى الكلاسيكية:

نسخة أخرى:


ولأنني ذكرت ورعه الديني، فهذا الأوراتوريو من أجمل ما ألّف باخ في الموسيقى الدينية:

أظن أنه حان الوقت أن أتحدث عن الراهب الأصهب، فيفالدي، وهو باروكي مثل باخ، وكان متديّنًا أيضًا، استطاع أن يبدع في الموسيقى الدينية والدنيوية معًا، أشهر ما ألّف، الفصول الأربعة:
الربيع:

الصيف:

الشتاء:

الخريف:

الحديث عن فيفالدي يذكّرني بالكمان، والحديث عن الكمان لابد أن يُذكّرني بباجانيني- شيطان الكمان. La Campanella:

ربما تستأسر ألمانيا والنمسا بمعظم عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، وفي إيطاليا تطورت الأوبرا. في فرنسا أيضًا تطورت أوبرا خاصة بهم، وظهرت التأثيرية بعد الرومانتيكية، وكان من أهم أعلامها ديبوسي:


رغم أن الموسيقى الكلاسيكية اقتصر تطورها في أوروبا، إلا أن هناك من استطاع أن يكسر هذا الحاجز الجغرافي بموهبته الفذة، من هؤلاء تشايكوفسكي، ريمسكي كورساكوف، بورودين، جلينكا، بروكوفييف، سيرجي رحمانينوف وغيرهم ممن وضعوا الموسيقى الروسية في مصاف الموسيقى العالمية. وهم في الحقيقة ساعدهم على ذلك تاريخ الموسيقى الشعبية التي تمتاز بها روسيا في الحقبة القيصرية.. وإن جعلوا من هذه الشعبية حس عالمي في هذا الزمن القصير، فهذا أمر عظيم قياسًا بما احتاجته أوروبا لتطور الموسيقى الكلاسيكية من موسيقاها وأغانيها الشعبية بداية من القرن الخامس عشر.
من بينهم استطاع تشايكوفسكي أن يجعل من نفسه واحدًا من أعظم المؤلفين على الإطلاق، ولأن المعاناة غالبًا هي ما تشكل الموهبة أو تمدها بالصدق اللازم لصقلها، فكان تشايكوفسكي مستعدا لذلك تمامًا بما عاناه في حياته، فمن ناحية كان مثلي الجنس، وفي ظل العار الذي يلقيه المجتع على المثليين، عانى تشايكوفسكي من هذا الصراع الداخلي، ومن ناحية أخرى عانى جفاءً غير مبرر من السيدة التي عطفت عليه وتبنّت موهبته بعد ان تفرّغ تمامًا للتأليف، فبعد تخلّيها عنه، توطدت علاقته بابن أخته فلاديمير دفيدوف، ونمت هذه العلاقة في السنوات الأخيرة من حياة تشايكوفسكي بشكل ملحوظ، تبادلا فيه الرسائل الحميمية أثناء رحلة تشايكوفسكي إلى باريس، وصلت هذه العلاقة ذروتها حتى أهدى إليه تشايكوفسكي سيمفونيته السادسة، وهي من أبدع أعماله. وقد سبقت علاقته هذه علاقات أخرى كثيرة.
ولأن الحديث عن تشايكوفسكي، فلايمكنني إلا أن أشير إلى تحفته الخالدة: الكونشرتو الأول للبيانو، بعزف يفجيني كيسن- الروسي أيضًا، وأحد أهم العازفين المعاصرين:

كل ما يمكنني أن أستحضره وأنا أستمع إلى هذا الكونشرتو، هو الليل، الليل ولا شيء غيره، هذه المقطوعة بالذات مرتبطة في ذهني بلوحة قماشية قديمة كانت عندنا لونها أسود منقوش عليها بجعة بترتر فضي.

هذه السيمفونية الخامسة، واحدة من تلك الأعمال الرائعة أيضًا:

مطلع هذه السيمفونية يعد من أعظم الافتتاحيات على الإطلاق، في كيفية توظيفه لآلة الكلارينيت، في أول السيمفونية ثم دخول الباصون، ليكون نوع من الحوار والتجاذب بين آلات النفخ والآلات الوترية، شيء غاية في الجمال.
برع تشايكوفسكي أيضًا في الأوبرات ورقصات الباليه، منها
Nutcracker:

Swan lake:

Dance of swans:

هناك روسيان آخران لا يمكنني أن أتجاهلهما في معرض حديثي عن الموسيقى الكلاسيكية، أولهما هو ريمسكي كورساكوف صاحب موسيقى شهرزاد، ربما هذه المقطوعة هي أكثر المقطوعات التصاقًا بذهن العامة لتداخلها مع ثقافتنا العربية، أكثر حتى من أي عمل لبيتهوفن أو موزارت، ربما يرجع ذلك لتوظيفها في الأعمال الدرامية، إلا أنه يجب ألا ننسى كيف صاغها كورساكوف، بحيث لا يمكنك أن تفصل ملحمة ألف ليلة وليلة عن المقطوعة، وبذلك يكون ريمسكي كورساكوف هو الفنان الروسي الذي طور موسيقى بلاده الشعبية على أسس الموسيقى الغربية، ليؤلف موسيقى للحضارة الشرقية، هذا مذهل.

الروسي الثاني هو سيرغي بروكوفييف، هو مؤلف كبير أيضًا، إلا أنه صاحب مقطوعة، هي أعظم المقطوعات الكلاسيكية بالنسبة لي، هي في القمة، وهي من مسرحية روميو وجولييت لشكسبير.

وبجانب روسيا التي طورت لنفسها موسيقاها المميزة، كان هناك أيضًا النرويجي إدفارد جريج الذي تميّز بحسِ مرهف لا يخطئه القلب وهو يلامس نغماته البديعة، له كونشرتو للبيانو، من ذلك النوع الذي يرسم معنى كلمة كلاسيكية في الأذهان، وهذه نسخة بتوقيع يفجيني كيسن أيضًا:
الحركة الأولى: 

الثانية: 

الثالثة:

هذا المقطع من نوع سويت، أو متتابعة موسيقية، أُلفت لإحدى مسرحيات هنريك إبسنPeer Gynt

بجانب روسيا من الشرق والنرويج من الشمال، كانت إسبانيا أيضًا نشطة في موسيقاها، لها خصوصية ميزتها عن غيرها، أهم أعلامها كان جرانادوز، صاحب الرقصات الإسبانية:

حسنًا، من لا يرتبط الجيتار في ذهنه بهذه المقطوعة:


ولأني لا أفضّل أن أنتهي من هذه التدوينة بمعزوفة مثقلة في دراماتيكيّتها، فهذه نسخة البيانو من الكامبانيللا، عزف آليس سارا أوت:



السبت، 14 نوفمبر 2015

في انتظار جودو

My rating: 5 of 5 stars

رغم كل هذا العبث، إلا أن هناك مغزى.

الانتظار- مثله مثل الرجاء- ملعون. فكلاهما يستعبدان، كلاهما يلغيان وجود اللحظة الآنية- الشيء الوحيد الحقيقي في وجودنا. المسرحية كلها عبثية؛ الشخصيات- الحوار- الزمان والمكان، كان الانتظار هو الحقيقة الوحيدة في وجودهما، كان ذلك قاسيًا، أن يكون وجودهما مبنيًّا فقط على انتظار آخر، هما ملغيّان تمامًا. أعتقد أني لو أتيح لي اختيار قوة ما، لما ترددت في اختيار قوة إلغاء الرجاء والانتظار واستحضار الماضي، كلها أفعال منهِكة لاغية للوجود. لكن رغم ذلك أعتقد أنه أصبح لديّ مؤخرًا شيء من هذه القوى، في لفظ أي شيء أو علاقة ما تتوهم فيّ رغبة الانتظار أو الرجاء. لا أترك لهذه العلاقة مساحة تتوهم فيّ هذا الضعف، أبصقها تماما كما بصقة استراجون هنا. في الانتظار لا يفلت أي فعل أو شعور يتم في أثناءه من وطأته الثقيلة، حتى استراجون وفلاديمير حين يشعران فجأة بالسعادة، كان هناك شيء خفيّ يمنع مصداقية هذه السعادة، شيء طاغي ساخر من وجودها، لأن وجود الانتظار ينكأ أي وجود غيره. فعلى أي شيء أن ينتظر معنا، فنحن- ذواتنا إن شئنا الدقة- لا ننتظر وحدنا؛ سعادتنا، آمالنا، طموحاتنا، كل شيء يتعلق بوجودنا لن ينطلق إلى رحابة الحياة الحقيقية حتى نخلّص أنفسنا منه، نحن من نقرر لا غيرنا.. بانتهاء انتظارنا.

طيلة قراءتي للمسرحية كنت أستشعر هذه الغلالة الكئيبة ذي السطوة طالما أن هناك انتظار لا ينتهي.. حالة شبيهة بأن تكون مجبورًا أن تسمع الصوت الساذج لتنقيط الصنبور في صمت الليل، فيعجزك أن تفكّر في أشياء أكثر أهمية.

كل عناصر المسرحية اشتركت في بث هذا الشعور القاسي بالانتظار، الجاثم على النفس بلا رحمة؛

- بدءًا من المكان البسيط الذي يصعب أن يكون محل إقامة، إنما هو عراء ليس فيه سوى شجرة وطريق، أقسى ما يستطيعه أن يستضيف انتظارًا عابرًا، لا بهذه الأبدية، لكنهما اتخذاه محلًا مستديما في انتظار جودو.

- تتابع الزمن والعجز عن تحديده هل هو شروق أو غروب، كان له أثر يشبه أثر عبثية المكان.

- اختيار بيكيت شخصية الصبي بالذات لتوصيل رسالة السيد جودو لهما بتأجيل الموعد، أضفت على الموقف نوعًا من البراءة والمصداقية، والطفل كان مرتبكًا خائفًا صادقًا، ليس متبجحًا مثلًا، كان مُسالمًا ، فوضعهم ذلك أمام موقف جبري آخر لمزيد من الانتظار، فالرسالة تحمل صدقًا وأملًا في الحضور، يحتاج رفضها إلى قوة إرادة وقدرة على اتخاذ قرار، لا يملكانهما.

- حضور بوزو ولاكي يضع استراجون وفلاديمير- موضع مقارنة مع مصير لاكي، ذلك المستعبَد من قبل سيده، لا يملك مصيره ولا يملك رفضًا لأوامر سيده الإذلالية الغير إنسانية. ربما وضع المقارنة هذه بين وضع استراجون وفلاديمير من ناحية ولاكي من ناحية أخرى، جعلت مصائرهم متشابهة إلى الحد الذي يجعل استراجون يسأل بوزو إن كان هو جودو! هذا التشابه ذكرني بلقاء توماس- في رواية "كائن لا تحتمل خفته"- بابنه بعد غياب طويل واكتشاف التشابهات بينهما، الأمر الذي جعله يرتعب من فكرة أن يرى نفسه أمامه. هذا النوع من المقارنات يجعلنا نعيد الكثير من الحسابات بشأن حياتنا وطريقتنا، رغم ذلك فإن فلاديمير واستراجون يستمتعان بإذلال لاكي بعد استئذان بوزو، فكانت تلك طريقتهما (صورتهما في مرآة لاكي) في التعامل مع مصيريهما، بإذلال نفسيهما بمزيد من الانتظار.

- عدم خوضهم في سبب تأخر جودو وإخلافه لمواعيده، أو اتهامه أو على الأقل لومه أضفى على انتظارهم شيء من الجبرية، والعجز عن تحديد المصير- الشيء الأكثر قسوة وكآبة في المسرحية.

عند بيكيت الانتظار غاية.. فقط لو يأتي جودو، لكن ليس من الضروري أن نسأل ماذا بعد!

الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

نصّان يضحكان من الموت


(1) الجنازة



المشهد الأول: الميت من داخل النعش، المسرح مظلم تدل جدرانه على جوانب النعش الداخلية.

شخص مغلّف بإحكام في كفن أبيض، يتقلب يمنة ويسرة، يشعر بعدم ارتياح، متأوهًا:
- حوَش.. رعاااع، مكتّفني في ملاية معفنة، هو انا هطفش يا أغبيا. اوفففف.
يهتز الكفن بعد أن اصطدم أحد الحاملين بحجر، يصيح:
- حاسب يا بغل.
يشعر بشيء ما يتعثّر في يده، يستخرجه من داخل الكفن بصعوبة، فيجدها بقايا ثمرة تفاح مأكولة. يحدق فيها ليتبينها في ظُلمة النعش، يحدسها بعد قليل من التفكير، فيصيح مغتاظًا:
- حتى مش مستحملين لما تدفنوني... حوش رعاااع.
محدثًا نفسه في شيء من الندم والأسى:
- خططي كلها باظت، مش كان لازم اموت دلوقتي، مش كان لازم اموت دلوقتي.
يبكي بحرقة. 

(يظلم المسرح، تُسدل الستار) 

المشهد الثاني: أربعة أشخاص يحملون النعش، وخلفهم أربعة.
الحامل الأمامي الأيمن واسمه (صلاح) ينادي على مُجاوره :
- سمير... سمير.
ينتبه له سمير، وكان يأكل تفاحة:
- عايز إيه؟
- مين هيدفعلنا؟
- مش انت قلت ابنه محمود هيحاسبنا.
- لا مقولتش يا سمير.
- والله العظيم قلت.
صلاح بنصف التفاتة من رأسه مناديا على الحامل خلفه:
- جمال، هو أنا قلت محمود هو اللي هيدفعلنا؟
- إيه؟
- أنا قلت محمود هيحاسبنا ع الشغل؟
- لا مقولتش.
يلتفت لسمير:
- أهوه، شفت!
يلتفت سمير للحامل خلفه:
- أحمد، مش صلاح قال محمود هو اللي هيحاسبنا.
- آه قال كدا.
- أهوه، شفت!
يُسقط صلاح النعش من على كتفه في عصبية، فيُسقطونه جميعًا على الأرض. ينظر صلاح خلفه باحثًا عن محمود ابن المتوفي، يصيح:
- أستاذ محمود.
يأتي محمود مندفعًا:
- إيه يا صلاح، دا اسمه كلام، عيب والله!
- عايزين حسابنا دلوقتي يا أستاذ محمود!
- لا إله إلا الله!
- لا، أنا عارف الحركات دي من أيام المرحوم، مش متحركين إلا اما تدينا حسابنا.
يلتفت محمود يمنة ويسرة وهو يصفق بيديه مصطنعًا الاستنكار:
- لا إله إلا الله، هي فلوسك هتروح يا صلاح!
- كدا! ماشي.. يللا يا رجاله!
يترك صلاح الجنازة ويتبعه رفاقه الثلاثة.
يصيح محمود من خلفهم:
- خليك فاكر يا صلاح.. لا إله إلا الله!
على بعد عدة خطوات يستوقفهم سمير:
- استنى يا صلاح نسيت حاجة.
يعود حتى يصل إلى النعش، يميل عليه.
محمود:
- شهم يا سمير وجدع والله!
لكن سمير يبدأ في فتح النعش ثم يسحب منه الكفن.
سمير:
- ملايتي دي، أبيعها لحد مش ميت على القرش.
ثم يبدأ في تنفيضها، فتتطاير منها قطع التفاح المقضومة التي التصقت بها. يطويها ثم يعود لرفاقه.
- ماشي يا سمير خليك فاكر... لا إله إلا الله!
يصيح سمير:
- عالم مفترية، تاكل مال النبي!
يقف محمود وسط الثلاثة المتبقين، وكانوا جميعهم شيوخ تتراوح أعمارهم بين ال70 وال75 سنة. يقترب من واحد منهم:
- ازيك يا حج!
- ....
- انت منين يا حج أول مرة اشوفك؟
- إيه!
يفهم محمود أنه ثقيل السمع فيقترب منه أكثر، يصيح في أذنه:
- اسمك إيه يا حج؟
ردّ عليه من فمه الأهتم:
- سليم
- انت تعرف ابويا يا حج سليم؟
- لا والله يابني.
محدثًا نفسه:
- الحمد لله!
يتواصل معهم لكن بصعوبة، فكانوا جميعًا يعانون من مشاكل في السمع، اتفق معهم أن يحملوا معه النعش إلى المقابر، لم يعترضوا، بل رحبوا بحسن نية. كان الحاج سليم يجاور محمود في الصف الأمامي. قال محمود ليكسر صمت الجنازة:
- وحدوه!
لكنهم لم يسمعوه فتذكر مشكلتهم، فصاح بصوت عال:
- وحدوووووه.
لم يسمعوه أيضًا. صاح ناحية الحاج سليم:
- وحدووووه يا حج سليم.
فنظر إليه الحاج سليم بهدوء مبتسمًا كاشفًا عن لثتين عاريتين من الأسنان. بعد قليل شعر محمود بثقل في النعش، في نفس الوقت سمع أحدهم من خلفه يصرخ:
- حاج سليم!
نظر جواره فلم يجد الحاج سليم، نظر خلفه فوجده منطرحًا على الأرض، صاح:
- حاج سليم... لا إله إله الله!
أشار لهم ليضعوا النعش أرضًا، فحصه فوجده قد مات. اتفق معهم أن يذهبوا أولًا لدفن أبيه ثم يعودوا لدفن الحاج سليم. كانوا يبكونه بشدّة. تولى هو وحده حمل الجزء الأمامي، وهما تعاونا على الجزء الخلفي. بعد قليل سمع من خلفه صياحًا:
- حاج إبراهيم!
نظر خلفه فوجد أحدهما مُطرح أرضًا، رجع إليه فوجده قد وافته المنية. اتفق مع الأخير على أنه سيتولّى دفنهما بعد الانتهاء من دفن أبيه. كان يبكي صديقيه بشدّة. بصعوبة استمرا في حمل النعش، حدّث نفسه:
- ما كنت أدفعلهم وخلاص!
فشعر بضربة على رأسه تخترق النعش، تأوه رافعًا عينيه لأعلى، وتذكر والده:
- الله يرحمك يابا.
رأي من بعيد المقابر، فتهلل وجهه:
- شد حيلك يا حاج إسماعيل هانت.
أخذ الحاج إسماعيل يسعل بشده، فشعر محمود بالقلق:
- لا إله إلا الله!
سقط النعش.. أخذ يدفع النعش وحده أمامه بصعوبة بالغة حتى اختفى تمامًا من المشهد جانبًا، تُسدل الستار على مشهد الثلاث شيوخ مُطرحين أرضًا.

(2) الزنزانة 




المشهد الأول: في الزنزانة، ثلاثة مساجين هيئتهم الرثة تدل على سوء حالهم. يوجد سرير بدورين، وفي الجانب المقابل طاولة قديمة.


أحدهم نائم، والآخران جالسين ظهريهما للجمهور يعبثان في شيء ما يصدر صوتا مميزا. يختلفان في أمرهما فيتجازبان هذا الشيء، ثم يتعاركان، تزداد حدة الضرب حتى يطرح كل منهما الآخر، فيظهران للجمهور وبينهما الآلة التي يعبثان بها التي نتبين أنها ناي، لهما وجهان كالحان بجسدين هزيلين. يهم أحدهما واسمه (سيد) بضرب الثاني واسمه (حسني)، فيوقفه بإشارة من يده:
- استنى!
- إيه؟
يضغط على معدته متألمًا:
- أنا جعان يا سيد.
- استنى هصحي نبوي.
يذهب سيد لإيقاظ نبوي النائم على السرير الأرضي، وكانت له الزعامة في الزنزانة بحكم جسده القوي نسبيًا. يلحق به حسني وفي يده الناي. سيد:
- نبوي.
ينفخ حسني في الناي على وزن "نبوي"
- نبوي عندك أكل؟
لازال نائمًا، وحسني يتابع سيد بنغمات تحاكي نداءاته لنبوي.
- قوم يا نبوي جعانين.
ثم أخذ يهزه من جنبه، فعزف حسني لحنًا يتهادى يمنة ويسرة.
استيقظ نبوي أخيرًا:
- عايز إيه يالا؟
- جعانين يا نبوي شوفلنا أكل.
- مرموش حاجة؟
- لأ
يلاحظ الناي في يد حسني، فيسأله:
- إيه اللي في إيدك دي يا حسني؟
نفخ حسني نغمة سريعة، ثم قال:
- مش عارف، راموهالنا من شوية.
- هات كدا
أعطاه حسني الناي، فأخذ يقلّبها بين يديه، ثم تبدّت على وجهه ملامح من أدرك شيء ما، تناول من تحت وسادته شفرة حادة، همّ بتقطيع الناي، فصرخ حسني:
- هتعمل إيه؟
نظر إليه بفتور:
- مش عايز تاكل يا بغل، هقسمها علينا احنا التلاتة.
- هناكل إيه.. دي.. دي خشب!
- انت واكل امبارح إيه يامغفّل؟
أشار إلى رأسه ليتذكر:
- مش فاكر.
فتولى سيد عنه الرد:
- نعل جزمة.
نبوي:
- طيب. أسيادكو حبوا يكرموكوا، فبعتوا حتة الخشبة المعتبرة دي.
ثم بدأ بتقسيمها بالشفرة الحادة إلى ثلاث قطع متساوية. ووزع على كل واحد منهما قطعة، تناولها حسني بسرعة، وجرب نفخها فلم تصدر صوتًا، فخطف القطعة التي مع سيد وكان على وشك أن يضعها في فمه، نفخ فيها فلم تصدر هي الأخرى صوتًا وكان نبوي يتابع ذلك باستغراب، أشار حسني إلى القطعة التي معه، صاح نبوي في وجهه:
- انت اهبل يالهْ!
- والنبي يا ريس، اللي معاك هي اللي بتنفخ.
اختطف نبوي القطعة التي في يده، ورمى له قطعته. التقطها حسني بسرعة، وأخذ ينفخ فيها فأصدرت صوتًا، لكنه أقل جودة مما كانت عليه، لكنه رغم ذلك كان سعيدًا، أخذ هو يعزف بها، في حين أخرج نبوي صحن به ماء مالح، يغطس فيه قطعته ليتناولها مملحة، بينما كان سيد يقضمها بصعوبة. في اليوم التالي انتظر سيد وحسني جالسين خلف باب الزنزانة حيث كانا يشعران بإنهاك شديد، كان حسني يتسلّى بالعزف على نايه المكسور ورأسه مسندة على كتف سيد في إعياء فكانت نغماته شديدة الإعياء والهزال هي الأخرى، إلى أن ألقى حارس السجن وجبتهم اليومية وكانت عبارة عن النعل الثاني للأول، تناولها سيد وتوجّها سويًا إلى نبوي الذي كان نائمًا، أيقظاه، وبعد تقسيمها أراد حسني أن يستبدل قطعته لسبب بدا غامضا لهما، فاستبدلها باللتي مع سيد. أخذها ثم توجه للجهة الأخرى من الزنزانة، وعند الطاولة انحنى تحتها ليلتقط شيئًا ما، فأخرج قطعته من النعل الأول، وضعهما متجاورتين، وبدا راضيًا لتطابقهما، دسّ فيهما قدميه العاريتين، وصل حدّي النعلين إلى منتصف قدميه أو أقل بقليل، حاول التحرك بهما في الغرفة فاردًا ذراعيه في الهواء ضاحكًا، وكان نبوي وسيد مشغولين بالتهام النعلين. نظر إليه نبوي فأشار إليه ضاحكًا:
- تدوس ع النعمة يا كافر.
ضحك سيد، في حين استمر حسني في المشي بحذر حتى لا يسقط كمن يمشي على الزجاج. أخرج من جيبه الناي الصغير وأخذ يعزف، عزف بضعة نغمات موزونة بشكل اعتباطي، بينما كان صلاح ونبوي يتابعانه بإعجاب. حتى سقط على الأرض فضحكا عليه.. طال مكوثه فهرع نحوه سيد، مال عليه فوجد عينيه غائبتين. سيد:
- حسني... حسني
أحضر نبوي صحن الماء المالح، وصب بعضه في فم حسني، غمغم بشيء غير مفهوم.
سيد:
- حسني.
بصعوبة قال:
- أنا بايني كنت مضرب عن الطعام يا سيد.
قال سيد متأثرًا وهو على وشك البكاء:
- لا يا حسني، انت بقالك فترة مش عاجبك الأكل.
ابتسم حسني بالكاد.
قال نبوي:
- خد، خد يا نبوي بُقين ميا.
- لا يا ريس خليهم، بيخلو للنعل طعم
استراح قليلا ثم قال:
- عارفين انا نفسي ف إيه؟
- إيه يا حسني؟
- نفسي اروح للدكتور.
- اختلط حزنهما بالضحك.
سعل بشدة.

(يُظلم المسرح)

المشهد الثاني: حارس بزيه الرسمي يظهر منحنيًا وهو يجر جثة حسني، لا يظهر منه للجمهور سوى خوذته. كان الناي لازال في جيب حسني العلوي والنعلين مربوطين بقدميه. يختفي الحارس. ينغلق الباب بقوة.

(الفصل الثاني- بعد شهرين)

نبوي يبحث تحت الطاولة على شيء ما، في حين أقعى سيد خلف باب الزانزانة ينتظر. بعد قليل يُقذف من الخارج واحد من النعلين الذين كان يرتديهما حسني، اختطفه سيد وانطلق به نحو نبوي، هز كتفه ورفع أمامه النعل مبتسما، انتصب نبوي وأخذ منه النعل وانطلق نحو فراشه، بعدما جلس قلّبها بين يديه، بدا متحيرًا، حاول قطعها باستخدام يديه، وكان سيد يتابع ذلك متحيرا أيضًا. عجز عن قطعها، فأخذ يضربها على الفراش بعصبية فاقت احتماله، ظل يضربها هكذا بشدة حتى غشت عينيه الدموع من العجز وبدا كأنه على وشك الصراخ، وسيد يتابع ذلك بقلق وخوف، حتى سقطت الشفرة على الأرض. سارع سيد بالتقاطها، نظر إليها كمن واتته فكرة، فقدمها إلى نبوي، أخذها منه نبوي كأنه يراها لأول مرة، حاول قطع النعل بها، ولما بدا الأمر ناجحًا، تبدًت من على وجهه ابتسامة.
(يُظلم المسرح تدريجيًا وهو يقوم بتقسيمها)

الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

من يوقف سيل العناوين في رأسي

لم تعد توجد قصص في رأسي، هناك فقط عناوين، آخرها كان: "متى يتوقف اللورد الصغير عن الموت"، ورغم تطابق ظروف ظهور هذا العنوان مع آخر اسمه: "ملاطفة فتاة شاردة" إلا أنهما مختلفان تمامًا، ظروف القصتين مختلفتين، فالفتاة الجالسة قبالة شاطيء البحر وحدها، يتصادف وجودها مع رجل يوزع الملاطفات مجانًا على فتيات الشاطيء الوحيدات، هذه القصة كما هو واضح نشأت في عالم موازٍ، حيث لا تُعتبر الملاطفة إجرامًا. أما عن لوردنا الصغير فعمره لا يتعدى الحولين، لكنه كان من المفترض أن يجرب الموت كلعبة اعتاد أن يلعب بها، وأنا أردت أن يتوقف عن ذلك لأن الموت ليس لعبة، لكن من يهتم حقًا بلورد صغير يلعب بالموت.. لذلك فقد تركوه، ربما لأنه لورد في الأساس، وله صلاحيات.
عنوان آخر كان "لم أعد أهتم"، حاولت دفعه بعيدًا عني لأنه لا يحقق لي مقدارًا ولو ضئيلا من اللغة الحداثية التي حققها اللورد الصغير والفتاة الشاردة، لكن لم يكن لي أن أتجاهل العنوان الأكثر بروزًا من بين أقرانه، حيث كان له الفضل في وأد مشاريع قصصهم، فحين ظهر اللورد أول مرة، ظهر معه هذا العنوان. أما الفتاة الشاردة، فقد فكرت أن أرسل العنوان لشاعر يجيد استخدام العناوين، لأننا قبل كل شيء في حاجة لتكريم هؤلاء الذين يوزعون الملاطفات مجانًا، ناهيك عن مزايا الشرود، والتي أولها: صمت، حيث هذا شيئًا لم أعد أجيد استخدامه ورأيت أني في حاجة ماسّة لممارسته بشكل أكثر توازنًا، كانت الفتاة محظوظة لأنها في حضرة البحر، لكن من يحضر لي بحرًا في غرفتي. قليلون جدًا من يملكون بحرًا في غرفهم، أقول قليلون جدًا لأنهم موجودون، وقد كنت واحدًا منهم. كانت الفتاة أيضًا تمتلك بحرًا في غرفتها.

ليس هذا فحسب فكما يقول المثل (العناوين حين تهب فإنها تجرف كل شيءٍ أمامها)، ففضلًا عن عناوين القصص هناك أيضًا عناوين المقالات، واحد من هذه العناوين كان "تسعة أشياء لها مفعول رصاصة ليس من بينها حلمة منتصبة"، أعرف جيدًا أني لا أذكر من هذه الأشياء سوى الحلمة المنتصبة، ربما لهذا السبب لم أشرع في كتابة المقال أبدًا حتى أجد هذه التسعة أشياء التي أستطيع أن أستثني منها حلمة منتصبة. وإلى ذلك الحين فالأجدى أن أتساءل: ما هو تأثير الحلمة المنتصبة؟ وإلى جانب هذا العنوان شديد الضبابية، هناك عنوان آخر أقل منه ضبابية لا يستخدم أسلوب الاستثناء في تكوينه، هو "القائمة الكاملة بالأشياء التي لا تُحتمل" بزغ هذا العنوان بالذات كردّ فعل مسالم حين كنت أنتظر وسيلة مواصلات في جو حار لا يُحتمل، ومن هنا جاءت هذه الصرخة الصامتة، كان لدي بالفعل شيئين جاهزين للبدء بهما: انتظار مُطوّل، وجو حار يتزامن مع انتظار مطوّل. بعد أن ركبت وبدأت نوافذ السيارة تدفع هواءً شديدًا، فكرت في باقي القائمة، لكن ذلك بدا مُصطنعًا خصوصًا وأن عناصر هذه القائمة لها صفة "الصرخة الصامتة" التي لا يناسبها هواء النافذة بعد الانتظار المُطوَّل. بالطبع لا حظت أني مهتم بشكلٍ لا إرادي بالقوائم، وكأن حملة دعائية تتحرك داخل عقلي لحثّي على قراءة مقالات لا يوجد منها سوى العناوين، حيث عليّ أن أكملها بنفسي دائما.

الخميس، 1 أكتوبر 2015

مفتّش جوجول ومكانة الأدب

My rating: 4 of 5 stars


طيب، الكتابة لا يشوبها شيء تقريبا، لكني فقط لم أعد متحمسًا لهذا
النوع من الأدب الذي يلعب على غريزة سخيفة في الإنسان؛ وهي فضول معرفة رد الفعل، قصة مثلا تدور حول فلان ضرب علان، بإمكان أديب يُقدّر استغلال الفرص أن يجعلها قصة مثيرة لأنه لو صادفني موقف مثل هذا في الشارع فالغالب أني سأتوقف ولو قليلا لمتابعة مجرياته لأن ذلك ممتع وليس فيه ملل إطلاقًا. إنه قانون تسويقي جيد؛ بِع للناس ما يحبون مشاهدته.
ومعظم الأعمال الأدبية القديمة، حتى ما تُعتبر قامات تعتمد على هذه التقنية، مؤخرًا فقط نضج الأدب، لأن الإنسان اكتشف العدم وطرق أكثر دهشة للامبالاة.
وربما هذا الشكل الغير ناضج من الأدب هو ما وراء الفكرة الشائعة عن أنه فن النميمة!

مشكلتي أيضًا مع هذا النوع من الأدب أنه يفترض نظام معين من الأخلاق والمثالية، يقيس عليه أشخاصه والحياة التي يعيشونها، ويحكم عليهم من منطلق هذا القالب المعين من الأخلاق.
لهذا أكره المثالية، لأنها تتطلب خطا واضحا من المقاييس تحكم به على كل شيء ومن ثم تولّد معها نظام من الحكم على كل من يخالفها، هذا هو الأدب من الأساطير الإغريقية حتى الروس، ربما لم ينضج الأدب بحق إلا بعد الحداثة، بعد نيتشة، بعد نيوتن، بعد الثورة الفرنسية، بعد كل الانقلابات التي أكدت على مدى حماقة أن تفترض مقياسًا تقيس عليه مُثلك، أيضًا لثورة يناير تأثير شبيه بذلك (لكنها عدمية فشل لا عدمية تحقيق، الثورات عمومًا تؤدي إلى انقلابٍ ما، هدم في اتجاه مُعيّن ). أعتقد أن العدمية هي ذروة نضج الإنسان.
ورأيي هذا ليس بعيدا عن الواقع، أرى بعض المحاولات التي تحاول أن تعيد إنتاج هذا النوع من الأدب متأثرين بهذا الشكل المثالي القديم، ربما لأن ذلك يعطيهم طمأنينة أنهم يتحكمون بالأمور طالما عرفوا سر المقاييس وسهولتها، وأنها تعطيهم نوع من الرياسة.
فتدخل مثلا على صفحة كاتب على جودريدز فتجد معظم إقتباساته من ذلك النوع الذي يقدم النصح باعتباره الحكيم الذي يملك مقاييس مُحكمة، على الجميع أن يتبعوها.
هذا عن بعض القصص، لكن هناك قصص متقدمة جدا من الصعب الحدس أنها كُتبت في بدايات القرن ال19.
بعض هذه القصص تعيد إليّ الصورة الزاهية لإغواء الحكايات.. إنها من ذلك النوع الذي تستشهد به على ما للأدب من قوة وتأثير.. أعتقد أن كلامي هذا موجه على الأخص لقصة واحدة دون غيرها.
أقولها صراحة؛ أجد نفسي عاجزا تماما على إيجاد معنى صريح للأدب، لكني لا أجد أفضل من القصص القوية ما تصلح بذاتها تعريفًا للأدب، أشير بكل حماس إلى تلك القصة وأعلنها؛ هذا هو الأدب بعينه.
من المهم أن يفطن الأدباء إلى حقيقة واحدة؛ إلى القيمة الشعرية للقصة، فبدونها تصبح القصة بلا قيمة، بلا روح، حتى وإن كنت مدفوعًا عن طريق صياغتها أو حبكتها أو لغتها، إلى مدحها بحماس، لكن كل ذلك لا يُغني عن أهمية القيمة الشعرية. هذا ما يجعلني لست متحمسًا ليوسف إدريس مثلًا، وأعتبر إبراهيم أصلان أديبًا من الطراز الرفيع.
قصة المعطف.. كثيرًا ما تساورني فكرة أن الأدب يصل إلى أعماقنا عن طريق الضعفاء، الشخصيات الهشة، المحطمة، التي يصورها الكاتب بصراحة عما نحن نتورع عن الاعتراف به، فما معنى الصدق لو لم يكشف ضعفًا وخواء،
ابحث عن الضعف في القصص العظيمة وستجد أنه عنصرا أساسيا في بنيتها الشعرية. (يحضرني الآن شاعرها الأبرز في تاريخ الأدب، خوان رولفو). إنك حين تغوص في قلب شخصية فلابد أن تصل إلى حقيقة ضعفها.
عموما الملاحظ عند جوجول أنه يعتمد على طريقة مزدوجة في حبكته، فهو في البداية يُقيم صرح القصة عن طريق الوصف المُسهب أحيانا لحياة عادية، بحيث يُكوّن عند القاريء خلفية واضحة بشكل متعمد على نحو ما، ثم فيما بعد يقوم بتفكيك هذا الشكل معتمدًا على ذاكرة القاريء، لصالح عنصر المفاجأة، لها تأثير درامي في البنية الراسخة للوصف الدقيق للهدوء والدعة والاستقرار.


صديق قديم جدًا

My rating: 4 of 5 stars


بسيطة لدرجة أنها غير قابلة للتأويل. أشعر أن مثل هذه الكتابة الأدبية تصلح لأن تكون سجلًّا لأمزجة الناس، الأمر الذي تعجز عنه كل الوسائل الحديثة وينفرد به الأدب دون غيره. من الجيد أن يكتشف الصانع سر فرادة صنعته ويتقنه. السرد من أهم وسائل أصلان التقنية للوصول لهذه الغاية، وقد صرت أعني مؤخرًا بطريقة السرد أكثر من غيرها من التقنيات (والحوار كذلك بطبيعة الحال)، ألفظ أي محاولة بائسة عاجزة عن توفير ذلك "الحد الأدنى" من السرد تحت أي مسمى ولو كانت إجتهادات حقيقية، عليها أن تظل في الظلام تبني نفسها حتى تستطيع أن تصل لذلك الحد الأدنى، حينئذ يمكنها أن تتشارك الأجواء بتلك الأرضية الصلبة.
لماذا أقول هذا الكلام؟
لأني قرأت هذه الرواية بعد عدة محاولات محبطة للتعرف على مثل تلك الاجتهادات والتي لم توفر ذلك الحد الأدني من السرد، ومع ذلك استطاعت - ليس فقط أن تتشارك الأجواء، بل أن تستحوذ عليها. علينا أن نركز على هؤلاء الذين يتقنون السرد، وعلى هؤلاء الذين لا يتقنونه أن يبقوا بعيداً قليلاً حتى يتأهّبوا كي لا يختلط الأدب بالمحاولات الصبيانية. لذلك فإني صرت أبحث عن هؤلاء الذين يتقنون السرد أكثر من أي وقت مضى لأن العالم يصير أكثر ظلامية بدونهم.

فيفالدي

My rating: 4 of 5 stars

يومُا ما سوف أفهم معنى الكونتربانط، والسلم الموسيقي، وأميّز النغمات الهارمونية،
وأقرأ النوتة الموسيقية، وأفرّق بين جميع أنواع المقطوعات الأوركسترالية، وأحدس كل الآلات التي أسمعها في أي كونشرتو أحبه، ثم أفهم الموسيقى عقلًا، حينئذٍ سأختار الفلوت أو الكمان لأتعلّم العزف، ثم.. ثم لن أجد أفضل من مقطوعات الصيف والربيع والخريف والشتاء لأحاكيها.
أحب فيفالدي لأني أحب أي أنثى تعزف مقطوعاته، أو أحب أي أنثى تعزف مقطوعات فيفالدي لأني أحبه: 


ما الذي يستطيع أن يؤثر على روح عازفة بهذا الشكل إلا إذا كان من حبٍّ أو سُكر، كتبها فيفالدي منذ ثلاثمائة عام، وأنا لست شيئًا في هذا الصرح الزمني.
فيفالدي أفضل من داعب أوتار الكمان، وحاكى أصوات الطبيعة، وأقنعنا بذلك كله.

كائن كونديرا الذي لا تُحتمل خفته

My rating: 3 of 5 stars

تروق لي المقارنة بين الواقعية السحرية لماركيز القائمة على تداعي الحدث، والواقعية السحرية لكونديرا القائمة على تداعي الكلمة بما تحمله من فلسفة.
لكني أحب الحكايات أكثر.


الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015

إنقاذ موزارت


    كنت قد أوكلت سماعة الرأس خاصتي إلى شركة (كيب إن مايند) الخاصة بالعناية بسماعات الرأس، وهي شركة عريقة أُنشِئت تزامنًا مع اختراع الترانزستور، حين تقلّصت الأشياء إلى حجوم غير مرئيّة، فأصبح الناس يتسائلون- غالبًا بعد أن يعبروا عن دهشتهم مما وصلت إليه التكنولوجيا- "لكن ماذا لو فقدنا هذه الأشياء الصغيرة جدا؟". كان مقر الشركة يمتد ما بين ميداني التحرير وطلعت حرب، يمكنك أن تشاهد بوسترات عملاقة مكتوب عليها عبارات مثل: "الأصوات الخارجية صارت مزعجة؟ إذن فاشترِ سماعة رأس معتبرة، لكن هناك ما هو أهم قبل شراء سماعة الرأس، كيب إن مايند تمنحك هذا الشيء المهم". وكانت الفتاة الشهيرة الشقراء تشير باسمة إلى نقطة لامعة صغيرة في أذنها، كان اسمها الفتاة مايند. كان الجميع يعاني من قلق الضياع المحتمل لسماعة الرأس، فضلا عن فقدان أو تلف ملحقاتها الصغيرة، لذلك فكانت هذه الشركة تعمل جاهدة على تحذير عملائها الذين قد يواجهون المعضلة المربكة: الأصوات الخارجية المزعجة. اتصل بي أحد المسؤولين المهمين في الشركة وقال بنبرة رسمية "كيب إن مايند تمنحك الشيء المهم"، كان على جميع موظفي الشركة أن يرددوا شعار الشركة في بداية محادثاتهم مع العملاء. ثم بدأ المحادثة الخاصة بي مباشرة دون أن يتوقف ليفصل بين ما هو رسمي وحقيقي. قال:

- سيدي، عليك أن تنتبه؛ فالغلالة القماشية الرقيقة جدًا على وشك أن تسقط في أية لحظة، وأنا أنصحك أن تستبدلها فورًا.

قلت له:

- لكن هل في ذلك خطر على سماعتي؟

- بالطبع، فهذه الغلالة القماشية الرقيقة جدًا هي المسؤولة عن تنقية الصوت وفلترة ما هو غث عمَّا هو مهم.

ثم سألني بشكل شخصي:

- ماذا تسمع الآن سيدي؟

- موزارت.

- سيمفونيته الأربعين قد تسقط منها حركة كاملة، أتحدث عن الحركة البطيئة، فهذه تحتاج نقاوة تامة من الشوائب الخارجية، باختصار؛ فالغلالة القماشية الرقيقة جدًا هي ما تحفظ لك- وللجميع في الحقيقة- الحركة البطيئة للسيمفونية الأربعين لموزارت.

- هذا مدهش.

- لا يسعنا إلا أن نقدم الشيء المهم دائمًا سيدي.

- شكرًا لك.

    فكرت: أليس من الرائع أن غلالة قماشية رقيقة جدًا هي ما تحفظ للبشرية حركة كاملة من السيمفونية الأربعين لموزارت. شعرت بالمهابة أن في أذني الآن هذا الشيء العظيم يقوم بدوره الحضاري المهم. كان عليّ العروج إلى أحد مراكز كيب إن مايند الموزعة في كافة أنحاء وسط البلد.

أعطيت رقم الآي دي الخاص بي إلى الموظف المسؤول ودوّن بعض البيانات، مثل اسمي وعنواني الإلكتروني والتأكيد على قائمة اهتماماتي الموسيقية، لم يكن هناك ما يستحق التحديث في القائمة، كنت أفكر أن أضيف ستروماي، لكني توصّلت إلى أنه ربما يكون نزوة مسيرها إلى الزوال مثل كيتي بيري سابقا، التي كلفني إضافتها إلى قائمتي المفضلة تغيير زر مستوى الصوت. قال لي الموظف:

- آسف جدا.. لكن الغلالة القماشية الرقيقة جدًا غير متوفرة في الوقت الحالي.

- والعمل؟

- عليك أن تنتظر يومين على الأكثر.

- وخلال هذه المدة؟

ارتبك الموظف قليلًا، ثم قال:

- المشكلة أن عدد مستمعي السيمفونية الأربعين لموزارت أصبح قليلًا جدًّا.

ضايقني ردّه:

- لكني أدفع مقابل ذلك!

- بالطبع.

مرّت برهة أعاد فيها ترتيب أفكاره، ثم قال:

- هناك حلول

- أرجوك..

- المهرجان الشعبي لا يحتاج سوى زر مستوى الصوت وهو بالفعل يعمل لديك بكفاءة، أنصحك إن كنت من محبي هذا اللون الرائج أن تستمع إليه بدلا من موزارت.

في هذه اللحظة دخلت فتاة ووقفت بجواري تنتظر دورها رغم أن بإمكانها أن تنتظر على المقاعد الوثيرة الموزعة على جدران المتجر، كانت تلوك قطعة علكة بشكل مزعج وتحدق في البوسترات البراقة المعلقة أمامها وكانت الفتاة مايند على جميع هذه البوسترات. اكتفى الموظف بأن التفت إليها ولم يبد أنه انزعج من طريقتها غير المهذبة. كان ينتظر ردي على اقتراحه:

- ها، سيدي؟

كان صوت العلكة التي تُمضغ بين ضروسها وطرقعة الفقاعات يملآن أذنيّ، بشكلٍ يعجزني عن التفكير في أي شيءٍ آخر. التفتّ إليها وقلت:

- لو سمحتِ هذه ليست طريقة مهذبة.

توقفت ونظرت إليّ كأنها تنتبه لوجودي فجأة، قالت مستفسرة:

- نعم؟!

- صوت مضغ العلكة.. هذا شيء يفوق طاقتي الاستيعابية، فضلًا عن طاقة غلالتي القماشية الرقيقة جدًا.

نظرَتْ إلى الموظف الذي بدا أنه وُضع في موقف لم يُدرّب عليه، قال بسذاجة:

- حصل خير يا فندم.

توقعت أن ينبهها إلى دورها الذي كان عليها أن تنتظره وفقًا للرقم الذي تسلّمته عند المدخل، لكنه كان قد أسقط رسمياته كلها. قالت:

- هذه قلة ذوق.

طلب منها الموظف أن تستريح على أحد المقاعد إلى حين يأتي دورها. رجعتْ وقد انتبهتُ إلى سماعتها المتدلية من بين أصابعها، استنتجت أن فيها تلف ما، وبالتأكيد فقد اتصل بها أحد المسؤولين المهمين في الشركة وأخبرها بهذا التلف بعد أن أسمعها شعار الشركة: "كيب إن مايند تمنحك الشيء المهم". قال الموظف:

- ماذا عن المهرجانات الشعبي يافندم.

قلت:

- لا بأس، سأجرب.

- وهناك اقتراحات تقدمها الشركة.

ثم تصفح أمامي كتالوج به عدد من فناني هذا اللون. كانوا يشبهون في وضعياتهم الخليعة وضعيات فنّاني الراب الأمريكي. قال بشكل شخصي:

- هذا اللون سيعجبك، أنا أراهن على ذلك، فالصخب مهم هذه الأيام. الصخب فحسب ولا شيء غيره.

ثم أضاف مبتسمًا:

- أتحدث عن الصخب الذي تُحدثه الموسيقى طبعًا.

فهمت تلميحه.

- هناك مثلًا "أزأز كابوريا"، ستملأ أذنيك بالإزعاج المفيد، إنها لا شيء تقريبًا..

أعترف أني أُعجبت بعبارة الإزعاج المفيد هذه، وكأني أكتشف أني ظلمت الإزعاج كثيرًا معي.

- وماذا أيضًا؟

- "مفيش صاحب يتصاحب"... ليست مزعجة بقدر الخلط بين المغزى البائس للصداقة وبين اللحن الراقص للأغنية. هذا اللون يقدم رقصًا من هذا النوع: رقص على مآسٍ.

هذا مدهش أيضًا.

أضاف:

- هذان هما الفرعان الرئيسان للأغنية الشعبية.

- حسنًا، أحب أن أجرب.

أخذ كارت الذاكرة، وملأه بهذين اللونين؛ الإزعاج المفيد، والرقص على المآسي. ثم قال، وهو ينتظر إنتهاء عملية النقل:

- إن كنت من محبي الأغاني الأجنبية، فقد أرشح لك أغنية جديدة لريانا.

- ما إسمها؟

- Bitch better have my money، هذه الأغنية ترقص على عملية خطف لسيدة جميلة. قاموا بتعريتها في الكليب بالمناسبة.

ثم أخذ يضحك بذكورية منتشية.

- أها، ضعها أيضًا.

وكان باديًا على وجهه أنه مُتشبّع بالرضا، كان من هذا النوع من الناس الذين ينتشون بتقديم اقتراحات يظنون أنها سوف تغير مسار حياة الآخرين.

انتهت عملية النقل بنجاح. قدم لي الكارت ثم قمت بتثبيته في هاتفي وأنا أسترق نظرة إلى فتاة العلكة. كانت عاقدة ذراعيها أسفل نهديها وهي تلوك بعصبية، كان أحمر الشفاة على شفتيها منسجمًا تمامًا مع لون بشرتها الصافي المائل للسُمرة.

- متى يمكنني تغير الغلالة القماشية الرقيقة جدًا؟

- حال توافرها سوف نقوم بإعلامك مباشرة.

شكرته ثم خرجت من المتجر وأنا أفكر في الفتاة صاحبة العلكة، كانت جميلة.

في البيت التقطت سماعتي، ثبتّها في أذني، وشغلت المجموعة الجديدة التي وضعها الموظف في كارت الذاكرة. أستطيع أن أفهم موزارت لكن هؤلاء يقولون كلامًا غير مفهومًا، لكن سمته الرئيسة - بجانب الإزعاج المفيد طبعًا- أن لغتهم وقحة ورذيلة، لهذا فقد أطلقت لخيالي العنان للوقاحة والرذالة بأن تخيلتني مع فتاة العلكة نرقص ونتعرّى. موزارت كان راهبًا لكن هؤلاء يبولون على الرهبنة.

في اليوم التالي، اتصل بي مسؤول من شركة كيب إن مايند، وأخبرني بعد أن سمّعني شعار الشركة، أن الغلالة القماشية الرقيقة جدًا أصبحت متوفرة في فروع الشركة، وقدم اعتذارًا عن التأخير، وأن ذلك ليس من سياسة الشركة أن تترك عملاءها للإزعاج الدائر حولهم. شكرته، ثم أعدت السماعة إلى أذني وأنا أستمع لمهرجان اسمه في الغالب "يابن الإيه". في واحد من هذه المهرجانات، أعجبني أحدهم يصارح فتاة بأن تمنحه قبلة، قالها بشكل عفوي جريء. أعترف أني- بعد أن سمعت كل سيمفونيات موزارت وبيتهوفن وكونشرتوهات جريج وتشايكوفسكي، سأظل عاجزًا عن مطالبة إحداهن بقبلة بمثل هذه الجرأة. في ظهيرة اليوم التالي ذهبت إلى أحد فروع كيب إن مايند لاستلام الغلالة القماشية الرقيقة جدًا. حين سألني الموظف عن تحديث قائمتي المفضلة، أضفت المهرجانات الشعبي، ولأني لا أعرف أسماء مطربيها بشكل دقيق فقد تولى عني تسميتهم. كانت الغلالة محفوظة في علبة أنيقة لونها أحمر فاقع مكتوب عليها بخط أحمر فاتح أنيق وبسيط في الوقت ذاته عبارة: "الشيء المهم". وكان اللوجو عبارة عن خط انسيابي بارز على غطاء العلبة يمثل الفتاة مايند. قام الموظف بفتح العلبة، وكنت مهتمًّا بمتابعة العملية التي سوف تحفظ للبشرية الحركة الثانية من سيمفونية موزارت رقم 40. فتح قماشة بيضاء من الحرير، كان في قلبها الغلالة، وكانت بدورها مغطاة بطبقة زجاجية بنفس أبعادها، التقط الموظف ملقاط ذهبي والتقط به الطبقة الزجاجية، ووضعها بحذر على غطاء العلبة. ثم تناول سماعتي وثبت بداخلها الغلالة القماشية الرقيقة جدًا، وكان طولها لا يتعدى خمسة ملليمترات. بعد أن انتهى من تثبيتها بحذر شديد، تنفس الصعداء وهو يناولني إياها مبتسمًا:

- مبروك يا فندم.

- متشكر.

فعلا موزارت يستحق ذلك وأكثر.. وأنا أستدير لمغادرة المكان لمحت الفتاة صاحبة العلكة جالسة على أحد المقاعد تنتظر دورها. كان واضحًا من نظرة عينيها المثبّتتين ناحية الحائط أمامها وحركة كاحلها المهتز صعودًا وهبوطًا بسرعة وتوتر أنها رأتني. لم أنس بالطبع أن أختلس نظرة على نهديها المستقرين أعلى ذراعيها المعقودين تحتهما. لو أني مطرب شعبي لتغنيت بجمال استدارتهما.

وأنا أقترب من بوابة الخروج داهمتني حالة مفاجئة من الشجاعة أن أذهب لأتعرف عليها بعد أن أقدم اعتذارًا مناسبًا. لملمت سمّاعتي في جيبي وتوجهت إليها، ثم جاء صوت الإذاعة يعلن الرقم التالي في قائمة الانتظار، فقامت من فورها متوجهة إلى الموظف وهي تتجاهل وجودي باحتقار، ووجدت نفسي وحيدًا في مواجهة الفتاة مايند.

خرجت من المكان المكيّف الهادئ وأنا أثبت طرفيّ السماعة في أذنيّ، لأجرب الغلالة القماشية الرقيقة جدًا مع الحركة الثانية لسيمفونية موزارت الأربعين وأنا أشعر بفشل حياتي ممتد.

الأحد، 30 أغسطس 2015

كونشرتو



اشرب كثيرًا وفكر بقليل من الوعي أو بكثير من الثمالة في العالم من حولك، ربما المشكلة أنه لديك وعي، تخلص منه إذن، بأن تشرب أكثر حتى تفقد الصلة، ستصير أسرع المشاة من حولك والجميع يتحرك ببطء مثل مشهد سينمائي بطيء. هكذا إذن ابدأ مسيرتك لأن أحدًا لن يلحق بك، طاقتك عالية وتفكر في الرقص على موسيقى تكنو، لكن من أين تحصل عليها الآن وسريعًا، سماعات تليفونك، نعم بالضبط، تقوم بتثبيتها أعلى طبلة الأذن. يبدأ الدق عاليًا، تدرك فجأة أن الجميع من حولك يرقص على موسيقاك، كلهم يرقصون، وأنت لم تبدأ بعد، تخلع السماعات من أذنيك فيتوقفون عن الرقص، ويعودوا لحركتهم البطيئة، تغير الأغنية، تعيد السماعات إلى أذنيك، فيرقصون. هذه إذن شفرتهم، قمت بحلّها، بطيء- تكنو- رقص، لكن أليست هذه حركات الكونشرتو! نعم بالضبط؛ أليجرو، أدانتي، أداجيو، أو شيء من هذا القبيل.. أنت إذن جزء من الكونشرتو الكبير، يظهر فجأة مايسترو بدون عصا، لكن بذلته غاية في الأناقة، ذلك يدفعك لأن ترقص أكثر لأنك جزء من الكونشرتو. ألازالت السماعات في أذنيك؟ بالطبع.. لأنهم لم يتوقّفوا عن الرقص بعد.
أنت أيضًا ترتدي بذلة أنيقة، تكتشف ذلك من صورتك المنعكسة على مرآة محل الملابس. المايسترو يغيب، لكن ما فائدة المايسترو؟ إنه السؤال الذي ظل محبوسًا طويلًا داخل وعيك، والآن وأنت في لاوعيك تسخط عليه، تشعر أنك تفضله، ليس بإمكانه أن يوقف الرقص مثلك. أنت مايسترو، حتى وإن كنت ساخط على المهنة، لكنها شرف، تنكر أنها شرف؟!
ما الذي سوف تفعله الآن كي تكون مايسترو حقيقي؟ تشرب أكثر لتبقا داخل لاوعيك، لأنك لست شجاعًا بما يكفي لتواجه حقيقة المايسترو خارج حلقة اللاوعي.
ابدأ إذن بتنظيم الكونشرتو من خلال السماعات، لديك الآن حل الشفرة؛ بطيء- تكنو- رقص.

الخميس، 20 أغسطس 2015

ما الذي يعنيه أن نتحول إلى الكتابة على الموبايل..

في الحقيقة وبأبسط الصيغ الواضحة؛ هذا لا يعني شيئًا يخصّ صلب الكتابة نفسها على الإطلاق أو تأثيرها على العملية الإبداعية، إلا إن أقررنا بخضوعنا أخيرًا للمجتمع الاستهلاكي، وتخلينا عن الكثير من الوسائل الرومانسية التي تحقّر ضمنيًا من برنامج مثل الواتساب أو الماسنجر الذي لا أشك أن أحدًا منّا لا يمتلك واحدًا منهما على الأقل ضمن تطبيقات الهاتف. أحب مثلا أن أسمع مقطوعة أدادچو لألبينوني وأنا أكتب، هل ثمّة مصالحة ممكنة بين هذه المقطوعة المُغرقة في التأمل والمشاعر الإنسانية في أنبل شجونها وبين تطبيق سويفت كاي كيبورد- المفضّل لدي أثناء الكتابة والذي حملته من مخزن جوجل للتطبيقات بعد أن انتصر تسويقيًا وأدائيًا على غيره من الكثير من التطبيقات المنافسة.
حسنا.. ما الذي تغير سوى آليات العمل، قديمًا كانت هناك منافسة بالتأكيد بين مُصنّعي الورق والحبر، والأفضل هو الذي احتفظ لنا التاريخ الإنساني بنسخة من أعمال مؤلف عظيم (جون ملتون مثلا) أنجز مُنجزه عن طريقهما، لأنه كان هناك واحد من صناع الورق وآخر من صناع الحبر هما من استطاعا بالمنافسة أن يقنعا المستهلك- جون ملتون هنا- بمنتجيهما.
بداخلي رفض فطري آلي لظهور شخصيتي الاستهلاكية، لا أحب أن تظهر تعليقاتي حول منتج معين، فمثلا أنا متابع جيد لسوق الموبايلات، أحب جديدها وآخر تقنياتها، أحب أن أخمن سعر هاتف معين عن طريق مواصفاته، أنا شخص مناسب لأن تسأله عن بعض خصائص الهواتف الحديثة. رغم ذلك فأنا- آليًا أيضًا- منحاز للجانب الرومانسي/المعرفي، فأفضل تصدير شخصيتي المعرفية عن الاستهلاكية، فالأدوات وإن كان وجودها لا جدال في أهميته إلا أنها تظل معاول بجوار صرح شاركَت في بناءه ومن ثم ليس من المناسب لها أن تظهر في محيط أكثر من المحيط الشخصي.
لكن كيف يمكن أن تكون النزعات الرومانسية ذات أثر سيء أكثر من الاستهلاكية؟
مثلا هناك الكثيرين حين يُعجبوا بصورة فتاة جميلة تم تصويرها بشكل احترافي بمساعدة الميكاب وبعض التأثيرات البصرية، يذهبون إلى أبعد من هذا، يذهبون إلى الهيام ب"عالم" الفتاة الساحر، يتغزلون فيها، يقتبسون من أجلها القصائد، ويصيرون حالمين بها بشكل ساذج مثير للشفقة. هؤلاء المنحازين إلى الجانب الرومانسي يتغافلون عن الجانب الاستهلاكي: نوع الكاميرا، دقتها، زاوية التصوير، وضع الفتاة، الإضاءة، فلاتر الفوتوشوب؛ كل هذه الأمور التقنية والاستهلاكية كانت أولى بالإعجاب من فتاة؛ شخصيتها الحقيقية تم فلترتها لتبدو كما تحب أنت؛ حالمة.

نعود إلى ملتون، لا أشك أنه كان على دراية كافية أيضا بسوق الورق والحبر، ربما امتد اهتمامه بها إلى حد بعيد، من يعرف؟ ربما كان هاويًا أيضا. فاهتمام المرء بجانب ما من المعرفة يستتبعه بالتأكيد اهتمام مقابل بالأدوات المساعدة، يتحمس لجديدها وتطوّرها. ينتقل من أداة إلى أخرى آملا في أن تُحسّن من إنتاجيته بشكل ما.
أنا أحب الموسيقى، لكني لم أتوقف عند مجرد السماع ولم أقتنع بأن تكون هذه الهبة مجرد فعل هامشي يصاحب فعل القراءة والكتابة، لكني أعطيتها نصيبًا كبيرًا من الفعل الأول، وأسعى- في مجال طموحاتي على الأقل- أن يكون لها نصيب من الفعل الثاني- عزفًا.
هذا التوجه نحو فضول معرفة آلية الموسيقى وتطورها وأنواع الآلات وطريقة نظم النوتة الموسيقية أُعيزه إلى ذلك الجانب الاستهلاكي من شخصيتي التي تحب أن تتخطى الجانب الرومانسي والمعرفي من الأمور إلى جانبها الماديّ الأدواتي الأوليّ.
قبل شراء هاتفي الحالي شاهدت مئات المراجعات عن مجموعة كبيرة من الهواتف، ولا أبالغ لو قلت أني اكتسبت بفضلها خبرة كبيرة في اللغة الإنجليزية الخاصة بقاموس الهواتف، لا أبذل جهدًا كبيرًا في فهم مراجعة- أي مراجعة، عن أي هاتف متخطيًّا كافة التفاصيل التقنية الخاصة به. إذن فالبداية كانت شخصيتي الاستهلاكية الراغبة في اختيار أفضل الأدوات لمساعدتي على اكتساب المعرفة، ومن ثم تكوّنت لديّ معرفة جديدة بالأداة نفسها، لا تلك المعرفة التي تساهم فيها فحسب!
ففي البدء كان شغف المعرفة التي تعدني بها إمكانيات الهاتف العظيمة؛ فقراءة الكتب الإلكترونية، سماع الموسيقى، مشاهدة الأفلام، التطبيقات التي لا حدود لها من نظام مفتوح المصدر مثل أندرويد، كل ذلك أنبأني بمستقبل باهر من المعرفة، أضف إلى ذلك المتعة والتسلية التي تقدمهما تطبيقات مثل فيسبوك وتويتر.. الذين أعتبرهما أفضل مصدرين للتسالي على الإطلاق، كأن تمتلك أفضل مجلة منوّعة أهم ما يميزها هي أنك تختار ما تفضله أنت، لاحظ أننا الآن نضحك من الكوميكس أكثر من النكت. النكتة المصرية ذهبت، التي كانت ذات يوم تميز الشخصية المصرية، الآن حل محلها الكوميكس.
هذه الأرضية هي ما نمت عليه شخصيتي الاستهلاكية بنمطها الحالي. أحب أن أجرب التطبيقات، الألعاب، صور جديدة مناسبة كخلفية، أسارع بتقييم تطبيق ومراجعته على جوجل بلاي لو أثار إعجابي (خمس نجوم) أو سخطي (نجمة). وراء كل دافع استهلاكي منافسة ما وراءها دعائيات ترمي إلى كسب هذا المستهلك إلى صفّها، لأنها درست حاجته وشغفه.
نعود إلى المثال الذي بدأت منه، ففيه تضافرت الثلاث محاور؛ فيتجلى المحور الاستهلاكي الأدواتي في الكتابة بواسطة تطبيق سويفت كاي كيبورد، والرومانسي في سماع موسيقى أدادچو، والمعرفي في الكتابة نفسها.
إذن ما الذي يعنيه أن نتحول إلى الكتابة على الموبايل... هذا لا يعني شيئا في الحقيقة!

رسائل الشخاذ

- لو سمحت، هل أنت مخيف حقًا؟
- من الذي أخبرك؟
- لا أحد، أنا هنا وحدي بجوار حمار عمي، هو من قال لي أن هذا الحمار جبان جدا.
كان الحمار يأكل من مقطف التبن بتؤدة وتواصل كأنه لن يتوقف.
-وليكن، فحمارك هذا، أو حمار عمك أيا كان الأمر، لا يرى سوى مقطف التبن المعلق على رقبته! -لو أصبح خائفًا سيركل المقطف بعيدا، وتتناثر عيدان التبن، وربما مات جوعاً قبل أن يعود عمي بتبن آخر.
-هذا شيء لا يخصني كما هو واضح!
-أطلب منك ألا تخيف الحمار، وأطلب منك على وجه الخصوص أن ترحل من هنا.
-لا حق لك في هذا، لا أحد له الحق في شيء كهذا.. لا تتعد حدودك.
-حسنًا، لترحل أو لتبقا، لكن لا تخف الحمار. لا تتحدث.
-سوف أتحدث وأمارس حريتي كيفما أشاء.
اختار جذع شجرة قريب وجلس بجواره، أخرج ورقة وقلم من حقيبته البالية وبدأ في الإملاء على نفسه بصوت مسموع:
 -(عزيزتي عزيزة.. هل تعرفي أنه كلما كتبت لك رسالة انتبهت إلي اسمك وشغلني لفترة، على كل حال أنا بخير، خصوصًا في هذه اللحظة العظيمة حيث أتمتع بحريتي، سوف أسألك سؤالًا وأنتظر منك جوابا بالطبع، هل لأحد الحق في سلب حريتنا، ومن أجل ماذا من أجل حمار جبان! وبهذه المناسبة سوف أقرأ ردك على مسمع الجميع حينما يصلني، أحبك عزيزتي. مع تحيات.. من تحبينه بالطبع)
ينش سالم الذباب بعصا قصيرة وهو يصطنع اللامبالاة وهو يشعر بداخله بالقرف. تمر ثلاث دقائق وكلاهما صامتين، وإن كان الثاني يدندن أحياناً. يبدأ بالكلام:
-إذا ما اسمك؟
-هذا لا يخصك
-اللعنة على كل ما يخصني.
يتحدث كأنما يخاطب نفسه:
-ما الذي يخصني حقا!
-حريتك!
-حريتي هي ضمنيا الأشياء التي لا تخصني، أنا شحاذ لعين!
-أنت شحاذ حقًا؟!
-لا أصدق أني قلتها، أرجوك انس هذه!
-حسنًا نسيتها، بما أن الحمار يأكل مطمئنًا... من الجيد أن هناك من تبادلها الحب.
-من؟
-عزيزة.
-لا أعرف واحدة بهذا الاسم، هي واحدة من آلاف الأسماء التي أراسلها.
ينهق الحمار ويحرك رأسه كأنما يحذرهم من غضبته. يربت سالم على رقبته جزعًا!
-إذن أين ذهب عمك؟
-رحل منذ يومين ليبتاع طعام لنا وللحمار!
-أنا أيضًا لم آكل منذ يومين.
-هل تود أن تأكل خبزًا؟
-سيكون هذا لطف منك حقًا. يشعر بالامتنان من أعماقه فيضيف: -بخصوص حديثي عن الحرية، فاغفر لي هذا، أحفظ بضعة أشياء لأقولها بين الحين والآخر.
يبحث سالم في أشياءه عن كسرات الخبز فيقدمها له مع ربع قطعة جبن قديمة. يتناولها الشحاذ بنظرة منكسرة مبتسم بامتنان:
-الطعام حق للجميع كالتعليم والهواء، لكن مسؤولينا لا يبالون سوى بالتعليم. بالمناسبة محمد عبده هو صاحب هذه المقولة الخالدة.
-تعرف الكثير إذن؟
-أعرف ما ينفعني، إن حاول أحدهم أن يبعدني عن مكاني أكلمه في الحرية وإن لم أجد طعاما كلمته في مقولة محمد عبده.
- من يبالي إذن؟
- الجميع يبالون بشيء فريد كهذا، تخيل.. "شحاذ مثقف"، وضع أحدهم صورتي على الإنترنت وكانت التعليقات أني كنت فيما مضى أستاذ جامعي، وبسبب ذلك صرت شحاذهم المدلل، وإن رأوني أغدقوا علي من عطاياهم.. حينما يتثقف الإنسان فإنه يجمع حوله حمقى كثيرين مفيدين. -والحمير؟
-ما بها؟
-يبدو أننا نهتم بها كثيرًا.
-نعم، مثل شحاذ مثقف( يضحك بصخب)
يقوم الشحاذ، يمد نظره نحو الأفق مظللًا جبهته بكفه، لا يرى شيئا، يعود جالسًا
- ماذا كان ذلك؟
-أستطلع قدوم عمك، في رأيك لماذا تأخر؟
-كان له أن يأتِ بعد ساعة واحدة من رحيله، لكن مرت ثمان وأربعون ساعة!
-أين ذهب؟
-لم يخبرني
-على الأقل معك خبز وجبن.
-لم آكل منذ يومين!
-حقا؟ لما! هذه الجبن رائعة، والمِش... يا سلام!
-لو لم يأت سأموت، لا أعرف غيره وهو لا يعرف غيري!
-انس هذه الأشياء، على الأقل معك هذا الحمار، يمكنك أن تبيعه وتتاجر في الكتاكيت، ثم تتاجر في البيض، ثم تصبح ثريًا وتتزوج ويصير لديك أبناء، وحين يكون لدى الإنسان أبناء ينسى أعمامه جميعًا، قد يجيئك عمك ليطالبك بحماره، فيضربه أبناءك. حينئذ فقط تشعر بالفخر بذريتك.
-غير حقيقي!
-صدقني، رأيت ذلك كثيراً. يتنهد سالم بعمق، ويشعر بالملل والقلق معًا ملتفتًا حوله ليوقف مسار هذا الحديث.
يُخرج الشحاذ من حقيبته رسالة، ينظر إليها وهو يضحك بصوت خفيض، يريد أن يلفت انتباه سالم.
-ما هذه؟
-هذه رسالة كتبتها إلى فيروز، أتود أن أقرأها لك، سأقرأها لك.
يبدأ في قراءتها من دون أن ينتظر ردًا من سالم:
-          "عزيزتي فيروز.. كيف حالك، أنا بخير والأمور تسير على ما يرام، في المرة الأخيرة التي تقابلنا فيها وددت لو أخبرك أن تسريحة شعرك رائعة وكيف ان خصلاته تتدلى على صدرك في جرأة لا أستطيع مقاومتها. لا حاجة لي بأن أذكرك أني صرت عاشقًا لضحكتك حتى أني حفظت بعض النكات كي ألقيها عليكِ فأرى ضحكتك الصافية. ولأنكِ في كل مرة تغضبين أني لا أحكي أخباري، فسأقول لكِ كل شيء؛ العمل يسير على ما يرام، وصار الربح مضاعفًا، وأفكر أن أفتتح فروعًا جديدة، باختصار، أنا سعيد بكل شيء ومحظوظ، لأن عملي يسير بوتيرة مُبشّرة وفوق ذلك لديّ حبيبة مثلك. سوف نلتقي قريبًا. قريبًا جدا حبيبتي. مع تحيات.. من تحبينه بالطبع".
سالم مرتكزا بصدغه على طرف العصا المثبت طرفها الآخر على فخذه، يبدو أنه لم يول انتباهه لرسالة الشحاذ، بدا عليه القلق أكثر.
الشحاذ طاويًا رسالته وهو يتنهد بأريحية وسعادة:
-          السعادة أبسط شيء.
-          لكن ليست هناك فيروز ولا عزيزة..
-          حقًا! لم أكن أعرف.
يضحك بصوت مجلجل لا تخفي سعادته البلهاء، ثم يقول بنبرة نصح:
-          عليك أيضًا أن تكتب الرسائل..
-          أكتبها لمن؟
-          لوالدك مثلا، فهو بالتأكيد يعرف أشياء لا تعرفها أنت عن عمك المختفي!
-          مات والدي قبل ولادتي!
-          جرب أن تكتب له!
-          مثل فيروز وعزيرة؟
-          تماما مثل حبيباتي.
شبح ضحكة تلوح من وجه سالم لا يستطيع مُداراتها، يعطيه الشحاذ ورقة بيضاء وقلم، يتناولها سالم بتردد.
-          ماذا أكتب؟!
-          ابدأ مثلا بتحية والدك.
يضحك سالم بعفوية وتلمع حدقتاه:
-          لم أشعر بذلك من قبل.
يتردد قليلا ولازالت الضحكة بكامل طاقتها تشعّ في وجهه، يبدأ في الكتابة:
-          "مساء الخير أبي.. كيف حالك أبي.. أنا بخير وفي انتظار عمي.. أتمنى أن تكون بخير أيضا.."، يتوقف كأنه يستحضر ذكرى بعيدة:
-          "غبت طويلًا ولا أكاد أعرف عنك شيئًا سوى أنك كنت سائقًا.. وددت لو أراك.. أراك من خلف المقود، وهذا كل شيء.. يا أبي. "
يتوقف وقد تلاشت ضحكته، وأصبح منزعجًا، يرمي الورقة بعيدًا:
-          لا أعرف ماذا أكتب، هذه سخافة!
-          لا عليك، أنت لا تتمتع بهذه الموهبة على كل حال!
-          نعم، أنت وحدك من تتمتع بموهبة مراسلة الموتى!
-          وإن يكن، فأنا سعيد.
-          بالوهم.
-          نعم أنا سعيد بالوهم، هذه هوايتي؛ السعادة بالوهم. الوهم الوهم الوهم.
يصيح بها مرارًا.
-          كررها وستعرف أنها لا شيء.
يحمل حقيبته ويقوم استعدادً للرحيل:
-          أنا راحل
-          هذا لا يخصني.
-          نعم هذا شأني وحدي.
-          أكيد.
يتلكّأ في ضبط حقيبته البالية على كتفه. يسير عدة خطوات مبتعدًا قبل أن يوقفه سالم:
-          لكن أخبرني...
-          ماذا تريد أن تعرف؟
-          ماذا تحمل داخل هذه الحقيبة الثقيلة!
-          فيها رسائلي.
-          رسائل فقط؟
-          لا، ورزمة أوراق وقلم.
في هذه اللحظة نهق الحمار وهو يهز رقبته، يتأرجح معها مقطف التبن، وقد أضحى فارغًا تمامًا.