الصفحات

الاثنين، 14 ديسمبر 2015

أعظم سيمفونية، أعظم كونشرتو... تفضيلاتي في الموسيقى الكلاسيكية


تأتي الموسيقى الكلاسيكية في عدة أشكال Forms، أشهرها السيمفونية والكونشرتو، وهما شكلان في قالب السوناتا الذي تبنّاه المؤلفون ليضيفوا ويعدلوا عليه لما له من مدىً واسع من الحركات تتراوح بين السرعة والبطء، السوناتا هي معزوفة لآلة واحدة مثل البيانو أو الكمان، أشهر السوناتات على الإطلاق هي سوناتة بيتهوفن ضوء القمر moonlight، أما القالب الذي صيغت فيه السيمفونية والكونشرتو، فهو مجرد الشكل الذي يضم الحركات الأربع في حالة السيمفونية، أو الثلاث في حالة الكونشرتو، باختصار فإن السيمفونية هي سوناتة تعزفها الأوركسترا، أما معزوفة السوناتة نفسها، فتعزفها آلة منفردة. هناك أشكال أخرى مثل الافتتاحيات، المارش، السويت، الفالس، الثلاثي، الرباعي، والخماسي (إشارة إلى عدد الآلات المُستخدمة).. أو ما يُصطلح عليه موسيقى الصالون، التي تطورت في ظل حاجة الطبقات الأرستقراطية لمعزوفات وترية تُعزف جانبًا في الحفلات والأمسيات، عادةً يفضل الناس الموسيقى الكلاسيكية وحسب بعيدا عن القوالب، ففي النهاية القالب هو الشكل المفضّل لدى المؤلف الذي يصب فيه قدراته وموهبته، ليخرجها على أفضل وجه، والمؤلفون عادة ما يحبون التجريب، ومعظمهم لهم إسهامات في كل شكل. حين نتحدث عن إسهامات المؤلفين في الموسيقى الكلاسيكية، فنحن لا نشير فحسب إلى معزوفات جميلة تلمسنا بشكل أو بآخر، ولكن على وجه الخصوص فيما أضافه للموسيقى الكلاسيكية جعلها تتقدم إلى الأمام، لذلك فإن بيتهوفن وفاجنر يتربعان على عرش الموسيقى باعتبارهما من قادا أبرز حركتي تطور في مسيرة الموسيقى الكلاسيكية، أمّا موزارت وفيفالدي وشوبان وشومان إلى آخر هذه القائمة من عظماء الفنانين، فهم وإن ضافوا أيضًا الكثير، إلا أنهم شكلوا ملامح الفترة التي ألفوا فيها.
يُشار عادةً إلى بيتهوفن على أنه نصف كلاسيكي- نصف رومانتيكي. فهو الذي تسلّم راية الكلاسيكية بعد موزارت وهايدن، وبدوره سلمها لفاجنر لتكون جاهزة للهزّة الرومانتيكية، فأوصلها فاجنر لحالة يستحيل بعدها تطورها، فجاءت التأثيرية استجابة لقانون التطور والفنون.
لتكون الأمور واضحة بين الكلاسيكية والرومانتيكية، فهذا المقارنة الموجزة بين المدرستين، هي أبسط ما قرأت في هذا الموضوع:
"الأسلوب الكلاسيكي هو الذي يقوم على إظهار الفن نفسه، ويتنزّه فيه الفنان عن شخصه والظروف المحيطة، ويسمو ويصفو ويهذّب تعبيراته، ولا يهتم بشيءٍ في العمل الفني قدر اهتمامه، بتحديد هذه التعبيرات وإبرازها في إطار من الأنظمة والقوانين؛ بينما يقوم الأسلوب الرومانتيكي على رفع القناع عن شخصية الفنان وأفكاره ونفسيته كما هي. ويبرز فرديتها بتجاربها وعواطفها. وفي كلمة واحدة يرتبط الأسلوب الكلاسيكي بكلمة "رسم" design في حين يرتبط الرومانتيكي بكلمة "عاطفة" emotion." من كتاب "الموسيقى الكلاسيكية"، تأليف: صالح عبدون 

وكمثال على الكلاسيكية، فهذه السيمفونية رقم 40 لموزارت، يمكنك تلمس فيها المعنى أعلاه؛ سمو المشاعر والمعاني، لدرجة من المثالية، وذلك الهدوء الذي يشبه التنزه في حقل إنجليزي في القرن الثامن عشر:



هذا كونشرتو الفلوت مع الهارب، من أجمل المقطوعات:

أما السيمفونية الخامسة لبيتهوفن ، فمن أول وهلة يمكنك استشعار هذا القلق المتصاعد، وكأنه صراع بين الفنان وآلامه أو عجزه (وقد ألفها في فترة تدهور سمعه)، ومع تقدم السيمفونية بحركاتها، يصل بحدة معركته إلى ما يشبه الانتصار.
يقول بيتهوفن بنفسه عن هذه السيمفونية (في حوارٍ أسرّه إلى شاندلر صديقه): "هذه ضربات القدر يطرق على الأبواب"

كان بيتهوفن قد ألف سيمفونيته الثالثة "البطولة"، ناويًا أن يهديها إلى نابليون بونابرت الذي آمن به باعتباره ممثلًا لقيم الثورة الفرنسية، لكن ما أن أعلن نابليون نفسه إمبراطورًا حتى عدل عن هذا الإهداء، وقدم السيمفونية إلى راعيه الأمير جوزيف فرانتس لوبكوفيتز.

ولأني لست من هواة الأوبرات التي كتب فيها فاجنر معظم أعماله، فإن هذه المقطوعة من أوبرا فالكيري هي المفضلة بالنسبة لي:

قلنا أنّ بيتهوفن سلم فاجنر راية التطور لتنتقل الموسيقى من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية، إلا أنه ورغم هذا الاجتياح الرومانتيكي، كان هناك من ظل مواليًا محافظًا على القواعد الكلاسيكية دون أن يغريه هذ الحماس الرومانتيكي، أتكلم عن يوهان برامز، الذي شهد نجاح فاجنر وأوبراته، لكنه مع ذلك ظل محتفظًا بولهه بالكلاسيكية على أصولها القديمة. ومثله مثل فرانز ليست فقد ألّف رقصات هنغارية بديعة:

وهذه نسخة ليست من الرقصات الهنغارية:

هناك بعض الفنانين الذين منحوا الموسيقى مقطوعة أو أكثر كافية لتخليدهم، إنهم من هذا النوع الذي كنا سنقول عنه: "لو لم يؤلف سوى هذه لخلّدته"، من هؤلاء الذين ضمنوا لنفسهم الخلود بواحدة من أندر السيمفونيات هو التشيكي دِفورجاك، بسيمفونيته عالم جديد، أستمع إليها كثيرًا وفي كل مرة أشعر كأني أسمعها لأول مرة، لهذا فهي عالم جديد دائمًا:

في الحقيقة ألف ديفورجاك غير هذه السيمفونية، لكن لن تستطيع واحدة أن تبزّها أبدًا.. مؤلف آخر ممن ألفوا القليل الكافي لتخليدهم هو موريس رافل، ومقطوعته الشهيرة هي بوليرو، أشعر دائمًا أنها من نوع مارش، لكن الظروف التي كُتبت فيها تحول دون هذا المصير، فقد كُتبت للباليه ولم تؤدّ، هذه المقطوعة مؤلفة من نغمات بسيطة تتكرر المرة تلو الأخرى بدون ملل، كأنها حفيف شجر أو لطمات موج أو نسيم عليل، كل هذه المقطوعات الطبيعية نستمتع بها رغم أنها تتكرر على نحو أبدي بلا ملل، الفارق الوحيد أن رافل جعل مقطوعته أكثر قلقًا وانتظارًا لمصير هذا التكرار الأبدي، الذي يتصاعد نحو ذروة مجهولة:

لازال هناك شومان وشوبان وشوبيرت، يجمع بين هؤلاء (غير حرف الشين طبعًا الذي يبدأ به اسم كل منهم) أنهم تخصصوا في آلة البيانو، وبرعوا فيها، وليس غريب أنهم يتمتعون جميعًا بحس رهيف رقيق- أهم ما يميز شخصية البيانو.
ألف شومان هذا الكونشرتو والذي صار مرجعًا لكثير من الرومانتيكيين، ليصيغوا عليه أعمالهم من الكونشرتو مثل رخمانينوف:

أُصيب شومان في نهاية حياته بمرض عقلي، حتى أنه ألقى بنفسه في نهر الراين، أنقذه المارة، ثم أُدخل لمصحة عقلية، لم يخرج منها إلا إلى القبر.

هذه المقطوعة أشهر ما ألف شوبيرت


رغم أن آلة البيانو تهافت عليها الكثيرين، وأبدعوا فيها، إلا أن شوبان يقف كمعجزة اقترنت بهذه الآلة، ألف الفالسات والنوكتيرن وله كونشيرتو بديع. تجلّت موهبة شوبان الفذة منذ طفولته، وشهد الجميع له بعبقريته، وقد ألّف هذا النوكتيرن في حوالي العشرين من عمره:

هذا الكونشرتو بعزف يفجيني كيسن:

لو أننا عدنا بالزمن للخلف قليلًا للبحث عن أصول هذا الفن العريق، لوجدنا يوهان سباستيان باخ هو قائد كل هذا الأوركسترا البديع، بما قدمه للموسيقى الكلاسيكية من تجديد، فهو يعتبر من نقل الموسيقى من حقبتها الباروكية إلى الكلاسيكية الأكثر نضوجا، بما أدخله من توليفات جديدة تمامًا بمهارته الهارمونية والكونتربانطية، ولو أننا أيضًا بحثنا عن سر هذه الموهبة لوجدنا أن تدينه المسيحي هو الذي أصقل روحه بهذه الخفّة والانسيابية في الألحان، من أهم أعماله كونشرتوهات براندنبورغ:

وله توكاتا مشهورة للأرغن:

ورغم هذه المكانة العظيمة التي يتمتع بها باخ في تاريخ الموسيقى إلا أنه عُد في فترة قديم وغير مناسب مقارنةً بما أنجزته الموسيقى في ذلك الحين، إلى أن أعاد مندلسون البحث في تراثه وأحياه، ومنذ ذلك الحين وباخ يتمتع بمكانة فريدة وأستاذية يرجع إليها الكثيرين في أعمالهم. ويعد هذا الإنجاز لمندلسون من أهم ما يُذكر له بجانب أعماله العظيمة طبعًا.
هذه المقطوعة لمن يبحث عن الهدوء في الموسيقى الكلاسيكية:

نسخة أخرى:


ولأنني ذكرت ورعه الديني، فهذا الأوراتوريو من أجمل ما ألّف باخ في الموسيقى الدينية:

أظن أنه حان الوقت أن أتحدث عن الراهب الأصهب، فيفالدي، وهو باروكي مثل باخ، وكان متديّنًا أيضًا، استطاع أن يبدع في الموسيقى الدينية والدنيوية معًا، أشهر ما ألّف، الفصول الأربعة:
الربيع:

الصيف:

الشتاء:

الخريف:

الحديث عن فيفالدي يذكّرني بالكمان، والحديث عن الكمان لابد أن يُذكّرني بباجانيني- شيطان الكمان. La Campanella:

ربما تستأسر ألمانيا والنمسا بمعظم عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، وفي إيطاليا تطورت الأوبرا. في فرنسا أيضًا تطورت أوبرا خاصة بهم، وظهرت التأثيرية بعد الرومانتيكية، وكان من أهم أعلامها ديبوسي:


رغم أن الموسيقى الكلاسيكية اقتصر تطورها في أوروبا، إلا أن هناك من استطاع أن يكسر هذا الحاجز الجغرافي بموهبته الفذة، من هؤلاء تشايكوفسكي، ريمسكي كورساكوف، بورودين، جلينكا، بروكوفييف، سيرجي رحمانينوف وغيرهم ممن وضعوا الموسيقى الروسية في مصاف الموسيقى العالمية. وهم في الحقيقة ساعدهم على ذلك تاريخ الموسيقى الشعبية التي تمتاز بها روسيا في الحقبة القيصرية.. وإن جعلوا من هذه الشعبية حس عالمي في هذا الزمن القصير، فهذا أمر عظيم قياسًا بما احتاجته أوروبا لتطور الموسيقى الكلاسيكية من موسيقاها وأغانيها الشعبية بداية من القرن الخامس عشر.
من بينهم استطاع تشايكوفسكي أن يجعل من نفسه واحدًا من أعظم المؤلفين على الإطلاق، ولأن المعاناة غالبًا هي ما تشكل الموهبة أو تمدها بالصدق اللازم لصقلها، فكان تشايكوفسكي مستعدا لذلك تمامًا بما عاناه في حياته، فمن ناحية كان مثلي الجنس، وفي ظل العار الذي يلقيه المجتع على المثليين، عانى تشايكوفسكي من هذا الصراع الداخلي، ومن ناحية أخرى عانى جفاءً غير مبرر من السيدة التي عطفت عليه وتبنّت موهبته بعد ان تفرّغ تمامًا للتأليف، فبعد تخلّيها عنه، توطدت علاقته بابن أخته فلاديمير دفيدوف، ونمت هذه العلاقة في السنوات الأخيرة من حياة تشايكوفسكي بشكل ملحوظ، تبادلا فيه الرسائل الحميمية أثناء رحلة تشايكوفسكي إلى باريس، وصلت هذه العلاقة ذروتها حتى أهدى إليه تشايكوفسكي سيمفونيته السادسة، وهي من أبدع أعماله. وقد سبقت علاقته هذه علاقات أخرى كثيرة.
ولأن الحديث عن تشايكوفسكي، فلايمكنني إلا أن أشير إلى تحفته الخالدة: الكونشرتو الأول للبيانو، بعزف يفجيني كيسن- الروسي أيضًا، وأحد أهم العازفين المعاصرين:

كل ما يمكنني أن أستحضره وأنا أستمع إلى هذا الكونشرتو، هو الليل، الليل ولا شيء غيره، هذه المقطوعة بالذات مرتبطة في ذهني بلوحة قماشية قديمة كانت عندنا لونها أسود منقوش عليها بجعة بترتر فضي.

هذه السيمفونية الخامسة، واحدة من تلك الأعمال الرائعة أيضًا:

مطلع هذه السيمفونية يعد من أعظم الافتتاحيات على الإطلاق، في كيفية توظيفه لآلة الكلارينيت، في أول السيمفونية ثم دخول الباصون، ليكون نوع من الحوار والتجاذب بين آلات النفخ والآلات الوترية، شيء غاية في الجمال.
برع تشايكوفسكي أيضًا في الأوبرات ورقصات الباليه، منها
Nutcracker:

Swan lake:

Dance of swans:

هناك روسيان آخران لا يمكنني أن أتجاهلهما في معرض حديثي عن الموسيقى الكلاسيكية، أولهما هو ريمسكي كورساكوف صاحب موسيقى شهرزاد، ربما هذه المقطوعة هي أكثر المقطوعات التصاقًا بذهن العامة لتداخلها مع ثقافتنا العربية، أكثر حتى من أي عمل لبيتهوفن أو موزارت، ربما يرجع ذلك لتوظيفها في الأعمال الدرامية، إلا أنه يجب ألا ننسى كيف صاغها كورساكوف، بحيث لا يمكنك أن تفصل ملحمة ألف ليلة وليلة عن المقطوعة، وبذلك يكون ريمسكي كورساكوف هو الفنان الروسي الذي طور موسيقى بلاده الشعبية على أسس الموسيقى الغربية، ليؤلف موسيقى للحضارة الشرقية، هذا مذهل.

الروسي الثاني هو سيرغي بروكوفييف، هو مؤلف كبير أيضًا، إلا أنه صاحب مقطوعة، هي أعظم المقطوعات الكلاسيكية بالنسبة لي، هي في القمة، وهي من مسرحية روميو وجولييت لشكسبير.

وبجانب روسيا التي طورت لنفسها موسيقاها المميزة، كان هناك أيضًا النرويجي إدفارد جريج الذي تميّز بحسِ مرهف لا يخطئه القلب وهو يلامس نغماته البديعة، له كونشرتو للبيانو، من ذلك النوع الذي يرسم معنى كلمة كلاسيكية في الأذهان، وهذه نسخة بتوقيع يفجيني كيسن أيضًا:
الحركة الأولى: 

الثانية: 

الثالثة:

هذا المقطع من نوع سويت، أو متتابعة موسيقية، أُلفت لإحدى مسرحيات هنريك إبسنPeer Gynt

بجانب روسيا من الشرق والنرويج من الشمال، كانت إسبانيا أيضًا نشطة في موسيقاها، لها خصوصية ميزتها عن غيرها، أهم أعلامها كان جرانادوز، صاحب الرقصات الإسبانية:

حسنًا، من لا يرتبط الجيتار في ذهنه بهذه المقطوعة:


ولأني لا أفضّل أن أنتهي من هذه التدوينة بمعزوفة مثقلة في دراماتيكيّتها، فهذه نسخة البيانو من الكامبانيللا، عزف آليس سارا أوت: