الصفحات

الجمعة، 31 مايو 2013

مختصر تاريخ العالم

مختصر تاريخ العالممختصر تاريخ العالم by Ernst Hans Josef Gombrich
My rating: 1 of 5 stars

هناك سبب وجيه لمنح كتاب يستحق خمس نجوم نجمة واحدة!
ــــ
ولأنه كان حفل تاريخىّ بمعنى الكلمة؛ فقد كان كل الضيوف حاضرون؛ المتعة، التشويق، السرد، والمعلومات (هؤلاء الضيوف أرفع لهم القبعة، تستحقون الخمس نجوم)
غير أن هناك ضيفاً كان غائباً، على الأرجح لا تخلو معظم كتب التاريخ من غيابه، هذا الضيف هو الحيادية، لو كان الأمر مجرد غياب لاكتفينا بالصمت ومعه خمس نجوم صامتة مثله، أما أن يحل محله تحيز.. تحيز سخيف.. تحيز أعمى .. فإنى، ورضوخا لضغطى الذى ارتفع، اكتفيت بنجمة وحيدة (انخفض يا ضغط)
ــــــــــ
لنبدأ بالنجمة:

أولا الكتاب اسمه "مختصر تاريخ العالم" وهذا خطأ فادح... لأن الأصح هو مختصر تاريخ أوروبا!
لأنه حتى مع ذكر النذر اليسير عن الحضارات الأخرى كان ذكرا مهمشا، الحضارة الفرعونية، الحضارة الفينيقية، بابل وآشور، الصينية والهندية (الإنكا لم يأت ذكرها) كل تلك الحضارت مجتمعة لا تُقارن بما كُتِب عن أوروبا... لكننا قد نقول أنها حضارات قديمة عفا عليها الزمن ولم تترك سوى الحجارة والأساطير! إليك مفاجأة من العيار الثقيل: لم يٌكتب حرفٌ واحد عن حضارة العرب!
ففى الوقت الذى حقق فيه العرب معجزة حضارية سجلها لهم التاريخ فى أقصر مدة تاريخية، فى الوقت الذى كان علماء بغداد وقرطبة والقاهرة يحملون على عاتقهم مهمة الحضارة البشرية التى كانت ستضيع لولا ترجماتهم ومؤلفاتهم، فى الوقت الذى كانت بغداد فى عهد هارون الرشيد حاضرة العالم ومركز العلم والأدب، فى كل تلك الأوقات لم يتحدث جومبريتش (وهو يهودى رغم كرهى للتصنيفات العرقية) عن العرب، بل تحدث عن (عبقرية) شارلمان، تحدث عن كيف أن هارون الرشيد (بجلالة قدره) خاف من شارلمان وتحاشى شره وسمح للمسيحيين بزيارة بيت المقدس، خوفا من جيوش شارلمان (الفتاكة).. (أى عهر هذا الذى تمارسونه مع التاريخ.. تبا لكم.. هتخلونى أعادى السامية، حتى السامية فهى اختراع يهودى, فكلنا فى الحقيقة أبناء سام )
أما عن الدعوة الإسلامية، فأنا لا أناقش معتقد يعتقده المرء (سواء ملحد أو من أنصار المادية) لكن الافتراء ليس معتقد، فليس أجلّ من أن تقرأ خطبة الوداع: حرمة الدم، حرمة الربا، معاملة النساء بالحسنى، (عامة المعاملات بين المسلمين)
لكن أن يذكر أن خطبة الوداع، جاءت فقط لتبيح دم الكافر، والصلاة خمس مرات يوميا... فذلك هو الافتراء المبين (سحقا لوساخة اليهود)
......
بالطبع ذَكر المغول، وبالطبع لم يذكر أنهم حتى مروا ببغداد!!
لكنه اكتفى ب (إن خطرا عظيما آتٍ من الشرق إلى أوروبا) ... يا الله.. أىّ شيطان كتب هذا الكتاب..
ـــ
الحروب الصليبية: نعم، ذكر أنهم عاثوا فسادا فى أرض المسلمين وذبحوهم (فى نصف سطر هكذا) ... لكن، عاد الصليبيون لرشدهم واستغفروا ربهم من هذا الذنب العظيم..
(عزيزى الكاتب إن فى بلاد العرب بشر !)
ـــــ
لم يذكر قيام الدولة العثمانية، وهذا طبيعى بعد أن أغفل الحضارة العربية، لكن على كل حال فقد كان سليمان المعظم رجل حقير فى نظره !
ــــ
هل تستطيع الآن أن ترسم صورة للأندلس وبغداد هارون الرشيد (ارسمهم فى عقلك الآن) ثم ارسم أوروبا العصور الوسطى (همجية، محاكم تفتيش، قتل، ذبح، دم)... ثم اقرأ:
".. واصل الأتراك انسحابهم. ولو أنهم نجحوا فى الاستيلاء على فينا لكان الوضع مروعا بذات الدرجة التى سيكونها لو أن المسلمين العرب هزموا تشارلز مارتل فى تور بواتيه منذ ألف سنة مضت." (!!!!!!!) (أتساءل: هل وصلته أخبار أسبانيا أيام حكم العرب ؟!!! )
ــــ
ثم لم يذكر قيام دولة إسرائيل !!
ـــــ
خصص الكاتب الفصل الأخير والأهم للحديث عن معاناة اليهود أيام هتلر (عشر صفحات تقريبا)
أتذكرون ما قاله عن الحرب الصليبية: لقد أنهى معاناة العرب بتوبة الصليبيين وعودتهم للرب...
لا أعرف لماذا لم تنتهِ معاناة اليهود بعد أطول توبة فى التاريخ (توبة ألمانيا لإسرائيل)، فهو يبدو فى هذا الفصل كمن يريد أن يقتلع اعترافا من العالم بأن اليهود ظُلِموا وقد آن الوقت ليستردوا كل مافاتهم !!
ــــ
إذن فالكتاب موجه للنشء، والكاتب يهودى، والكتاب واسع الانتشار... هى لعبة حقيرة لتشكيل عقول قراء (من المفترض أنهم فى طور التنشئة) هذا ما يسمونه بالتزوير التاريخى !
ـــــ
أما عن إيجابيات الكتاب (الخمس نجوم)
فهى تلك الإيجابيات التى تحصل عليها من كل كتب التاريخ عامة، (لكن أهمها بالذات) كل هذه المعلومات المكثفة التى تحصل عليها من كتاب مختصر عن التاريخ..

لكن الميزة الأساسية والفريدة فى الكتاب، أنها أكدت لى: أنه لم يدنس تاريخ البشرية ولم يملأها بالشر ولم يكتب تاريخها بالدم سوى العرق الأوروبى، سوى هذا الرجل الأبيض الحقير، اقرأ ما فعلوه فى حضارات العالم المنعزلة، ما فعلوه فى المكسيك، فى الهند, مصر، جنوب إفريقيا.. مافعله مع الصينيين(حرب الأفيون) ، مع الهنود الحمر.. اقرأ ما فعله فى كل مكان وطأته قدماه حتى تقدر كل هذا الشر المكنون.. يمكنك أيضا أن تقرأ (وتشاهد) مايفعله الآن !!



View all my reviews

فنجانُ القهوةِ الأخيرِ



كانَ يدخنُ سيجارتَهُ، ينتظرُ القهوةَ التى على النارِ، ظلَّ ينادى ابنهُ الذى يلعبُ الكرةَ فى حوشِ المنزلِ مع أقرانهِ ليصبَّ لهُ القهوةَ بوجههِا الصبوحِ، أرادَ أن يدفنَ القهوةَ بالدخانِ فى صدرهِ، بهذهِ الطريقةِ فقطْ يستطيعُ أنْ يدفَنَ همومَهُ ويختبيءُ منها خلفَ صعودِ الدخانِ العبثىِّ نحو التلاشى، كانَ يؤثرهُما على الرحيلِ، لكنَّه رحلَ دونَ أنْ يشربَ آخرَ فنجانِ قهوةِ.. معَ كلُّ سعلةٍ كانَ صدرَهُ ينشقُّ، كأنما بخنجرٍ يمنىٍّ، وظلّ ينادى ابنهُ، لكنهُ تجاهلهُ لأنهُ لا يحبُّ صبَّ القهوةِ، كانَ صدرهُ لايزال ينشقُّ بِخنجرٍ بعدَ خنجرٍ، حتّى أنهُ عجزَ عنْ الصراخِ، ونسىَ القهوةَ والدخانَ.. نادى ابنهُ للمرةِ الأخيرةِ، كانَ يودُّ فقطْ أنْ يراهُ مدبراً أمامهُ ليصبَّ لهُ القهوةَ، هكذا كانتْ الحياةُ بالنسبةِ إليهِ، وكانتْ المرةَ الوحيدةَ التى لمْ يسمعْ فيها ابنهُ نداءَ أبيهِ والمرةَ الأولى التى يحرزُ فيها هدفاً فى شباكِ الفريقِ الندّ، طغتْ نشوتهُ وهوَ يعدو كمثلِ طائرٍ محلق على صوتِ أبيهِ، وبقدرِ طعنةِ الخنجرِ الأخيرِ المغروسِ فى صدرهِ هَوَتْ قبضتهُ على الأرضِ فصمتَ كلُّ شيءٍ فى أُذنهِ وفارتْ القهوةُ، حينها فقطْ اكتفى ابنهُ بنشوةِ الفوزِ وذهبَ على مضضٍ ليصبَّ القهوةَ لأبيهِ، واستحلفهُمْ ألا يرحلوا لأنهُ سيعودْ..

الأربعاء، 1 مايو 2013

حِكَايةُ السَّيِّدْ لام


 

(1)

مُنذُ أعوامٍ اشتَرَى السّيِد لامْ مِنْ مَتْجَرٍ ما، بِصُعوبَةٍ شَديدةٍ يَتَذكّرُ مَلامِحَهُ، مِصباحًا بمقبضٍ أَسْودٍ، وَضَعَهُ بِجِوارِ وَسَادَتِهِ البَاليةِ المُبَقّعةِ، وظلَّ نَائِمًا عَلى السّريرِ حتّى يَوْمِنا هَذا.. يَقولُ دَوْمًا لِنَفسِهِ: "أنا سَعيدٌ لأَنَّ لديَّ عَتادَ وَحْدَتي الطّويلةِ، لستُ بحاجةٍ إلى أَحَدِهمْ"، ولَمْ يَكُنْ عَتادَهُ في هذا المِصْباحِ وَحَسبْ، بَلْ أَيضًا كانَ هُناكَ كِتابٌ يُعيدُ قِراءَتهُ كُلّما انتَهَى مِنْهُ، وَليُضْفِي بَعضَ الجِدِّ والصِّدقِ عَلى نفسهِ كانَ يَضحَكُ في الأجَزاءِ التي تُثيرُ الضَّحِكَ كُلّ مَرَّةٍ كَأنَّهُ يَقْرَأُها للمَرَّةِ الأولى، لَكِنّ هُناكَ جُزءًا واحِدًا فَقَطْ هُوَ مَا جَعَلهُ يَضْحَكُ مِنْ أَعْمَاقِ قَلبهِ، ولا يُشعِره بالمَللِ أبَدًا، وَهَذا الجُزْءُ مُتَمَثلٌ فِي عِبَارَةٍ كانَ يَقولُها شَيْخٌ عَجُوزٌ لابْنهِ: "يا بُنَي، احْتَمِلْ قَسْوَةَ الحَيَاةِ، فَهي أَتفَهُ مِنْ أَنْ تُعيرَها انتِباهَكَ"، كَانَ يَضْحَكُ لِنَفْسِهِ كُلمَا قَرَأَهَا حَتّى تَدْمَع عَيْنَاه، رَغْم أَنّ تَعَابيرَ وَجْهَهُ كَانتْ تُوحِي أَنَّهُ عَلَى وَشَكِ البُكَاءِ، وَكانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: "لِمَاذا أَحْتَمِلُ حَياةً تافِهَة!"، وَكَانَ لَدَيْهِ أَيضًا، ضِمْنَ عَتَادِ وَحْدَتِهِ، قَلَمٌ يَكْتُب بِهِ مُلاحَظاتِهِ عَلَى مَا يَقْرَأه في الكِتابِ، ولأنَّ الكِتابَ امْتَلأَ بِالهوامِش وَلمْ تَعُدْ توجَدُ أَيَّة مِساحةٍ إِضافِيةٍ لِكتابةِ المَزيد، فَقَدْ كَتَبَ السيِّد لام مُلاحَظاتَه الإِضافية عَلى جُدرانِ الحُجرةِ حَتّى امْتقعَ لَونُها إِلى اللّونِ الأسْوَدِ، وَلمْ يَعُد هُناكَ سوى مِساحةٍ صَغيرةٍ تَكْفي بِالكادِ لِجُملةٍ أوْ اثنتين، فَفَكّرَ بِكِتابةِ مُلاحَظاتِهِ الإِضافيةِ عَلى سَقْفِ الحُجْرةِ، لَكِن عَدَمْ وجودِ سُلّمٍ حالَ دُونَ ذَلك.

أَمّا فَلْسَفَته، الّتي صَاغَها غَالِبًا قَبْل شِراءِ المِصْباحِ بِفَترةٍ قَصيرةٍ، فَهِيَ مُتَمَثّلةٌ فِي حِكمَتِه المُفَضّلةِ: "إِنّ أفضَلَ عِلاقةٍ بَيْنَ اثْنين هِيَ ألاَّ يَعْرِفا بَعْضِهِمَا"، وَعَلى أَساسِ تِلْكَ الحِكْمَةِ كانَ يَرفُض أَيَّة زِيارةٍ لَهُ مِنْ الخارِج، حَتّى أَنَّ أَحَدَهُم طَرَقَ نَافِذَتَه ذات مَرَّةٍ، وَقَالَ: "أَيُّها الرَّجُل، افْتَحْ لِي قَلْبَك قَبْلَ نَافِذَتِكْ، سَأَكونُ صَديقَك".. لَكنّ السيّد لام زَجَرَهُ قَائِلًا: "ابْتَعِد مِنْ هُنا وَلا تَأْتِي مَرَّةً أُخرَى"، فرَدّ عَليْهِ الرَّجُل بِاسْتِهْجانٍ مَمْزوجٍ بِسُخْرِيةٍ: "حَسَنًا يا صَديقِي، سَأَبْتعِدْ، لَكِنْ اعْلَم أَنَّهُ لَنْ يَأْتيكَ أَحَدٌ غَيرِي يَعْرِضُ عَلَيكَ صَدَاقَتَهُ المجّانيةَ، واعْلَم أَنَّنا سَنَقُومُ بِإزالةِ هَذِهِ الحُجْرةِ القَديمَةِ"، ثُمَّ ابْتَعَدَ مَعَ ضَحَكَاتِهِ حَتّى حَلَّ صَمْتُ الجُدرانِ الأَربَعَةِ.. لامَ السَّيِّد لامْ نَفْسَهُ وَقالَ: "لَقَدْ تَمَّ التَعارُف بَيننا بَعدَ أَنْ قبلت مُحادثته، لَمْ يَكُنْ عَلىّ فِعْلُ ذَلِكَ".. حَزِنَ حُزنًا شَديدًا في تِلْكَ اللّيلةِ، وكانَ يَلومُ نَفسَهُ بِأنَّهُ لَطالَما عَرِفَ الحِكْمَةَ فكانَ عَليهِ أَلاَّ يُحادثه، وتعلّمَ شَيئًا مُهمًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ صَوْتَ الإِنْسانِ طَريقتُه المُثلَى لِنَصْبِ المَكائِدْ بِالآَخَرين، وَقَرَّرَ أَنْ يَقْطَعَ لِسانَه..


وفي صَبيحةِ اليَومِ التّالي أَخْرَجَ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الوِسادَةِ بَعدَما تَذَكَّرَ الوَعْدَ الّذي قَطَعَهُ عَلى نَفْسِهِ في اللَّيلةِ الماضِيةِ، حَتّى أَنَّهُ رَأَى حُلْمًا غَريبًا؛ حَلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَرْبٍ قَديمةٍ لا يَعْرِفُ مَنْ يتحارَبُ فيها، وَكَانَ هُوَ الجُنْديُّ الوَحيدُ الحاسِرُ دونَ سِلاحٍ، وَفَجْأة أَشْهَرَ كُلُّ الجُنودِ سُيوفَهُم ورِماحَهُم وقَتَلوا أَنْفُسَهُم وَسَقَطوا جَميعًا تَحْتَ قَدَمِ السيدْ لام، سَارَ نَحْوَ المَلِك وَوَجَدَهُ يَلْفَظُ أَنْفَاسَهُ الأَخيرَةَ وَبَريقَ تاجِه يَلْمَعُ في عَيْنَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَوَضَعَهُ عَلى رَأْسِهِ، وَصَارَ مَلِكًا عَلى شَعْبٍ مِنَ القَتلَى والجُثَثَ.. وَانْتَهى حُلمُهُ. فَلَمّا هَمّ بِقَطْعِ لِسَانِهِ، تَذكّر آَخَرَ مَشْهَدٍ في الحُلْمِ (مَلِكٌ عَلى شَعْبٍ مِنَ القَتلَى والجُثَثَ) وَأَحَسَّ أَنَّهُ ذَاهِبٌ لِنَفسِ المَصيرِ، فَقَد كانَ هُوَ الوَحيدُ الحَيّ وَسَط القَتلى وَكَانَ مَلِكًا كَذلِك، ثُمَّ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَسَيَكُون الوَحيدُ الأَخرَسُ وَسَط المُتكلِّمين، وَعِرِفَ حِكْمَةَ الحُلْمِ: أَنَّهُ فِي الحَالَتَينِ وَحيدٌ!

أَلْقَى السيد لام المُوسَى، بَعْدَما تَأَكَدَ لَدَيْهِ عَدَم جَدْوَى قَطْعِ لِسانِه.. وَبَدَأَ بِقِراءةِ كِتابِهِ الذي أَنْهاه بِالأمسِ. لَمْ يَضْحَكْ، وَبَكَى عِنْدَما قَرَأَ: "يا بُنَيّ، احْتمِلْ قَسْوةَ الحَياةِ، فَهِيَ أَتْفَهُ مِنْ أَنْ تُعيرَها انْتباهَكْ".

(2)

ذات يومٍ سَمِعَ طنينَ ذُبابةٍ تَدورُ حَوْلَ رَأْسِهِ حَتى تَوقَّفت عَلى إِحْدى وَجْنَتَيهِ، حَاولَ ذبِّها عَنْهُ لكنّ بُرودَةِ الجوِّ وَظُلمةِ الحُجرَةِ أَثْقلا جَناحَيْها، وَلْمْ تَأْبهْ لِكفِّه العِمْلاقِ الذي يَبْطِشُ بِها، استَسْلَمَ لَها السيد لام وَوَضَعَها عَلى كَفِّهِ، وَأَخَذَ يَتَأَمَّلُها في ضَوءِ المِصْباحِ الباهِتِ الذي بَدَتْ فيهِ الذُّبابةُ مَسْرُورةٌ، حَتى أَنَّها أَخَذَتْ تَتَحَرَّك وَتدورُ حَوْلَ نَفْسِها فِي بُقْعَةِ الضَّوءِ، وَلِسَبَبٍ ما شَعُرَ أَنَّها مِثْلَهُ وأَنَّهُما يُحارِبانِ الطَّبيعةَ؛ هِي تُحارِبُ الظُّلمةَ، وَهُوَ يُحارِبٌ نَفْسَهُ.

التَقَطَ السيد لام قِطْعةً صَغيرةً مِنَ السُّكَّرِ مِنْ عَلى الأَرْضِ بِجِوارِ السَّريرِ، وَوَضَعَها عَلى كَفِّهِ، اقْترَبَتْ مِنْها الذُّبابةُ وَوَقَفَتْ عَلَيْها وَأَخَذَتْ تَتَنَاوَلَها بِفَمِها الذي يُشْبِهُ خُرْطومَ فِيلٍ، ابْتسَمَ لَها السّيد لام، وَاحْتَرَمَ فيها صَمْتَها وَهُدوءَها، ثُمَّ صَارا صَدِيقَيْنِ..
وَبَعْدَ أُسْبوعٍ لاحَظَ السّيد لام زِيادةَ حَجْمِ الذُّبابةِ إِلى الضِّعْفينِ تَقْريبًا حَتّى صَارَت في حَجْمِ عُقْلَةِ إِصْبَعٍ، واستَطاعَ أَنْ يُمَيِّزَ عَيْنَيها بِسُهُولَةِ، كَانَتْ تَنْظُرَ إِلَيهِ بِجُمودٍ، لَمْ يَكُنْ يَسْتريحَ لِنَظَراتِها التي تَشي بِشَرٍّ مُضمَرٍ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَلَّ يَحْتَرِمُ فيها هُدوءَها، وَتَأَكَّد لَدَيْهِ مَعَ مُرُورِ الوَقتِ أَنَّ نَظَراتها الجَامِدةِ تِلكَ ما هِي إلاَّ طَبيعَتِها التي لاَ دَخْلَ لَها فِيها، وأَنَّ الشَّرَّ المُضْمَرَ الذِي ظَنَّهُ فيها، ما هُوَ إِلاَّ وَهْم أَضفَتْهُ عَليها تِلكَ الطبيعةُ، وَأَنَّها أَبْعَدُ مِمَّا يَتَخَيَّلُ عَنْ التكلُّفِ والافْتِعالِ مِمَّا يُنسَبُ دَائِمًا إِلى البَشَرِ، وَتَوَطَّدَت عِلاقَتُهُ بِها، فَكَانَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْها وَهِي تَتَنَاوَلُ السُّكّرَ بِفَمِها، وَكَان يُخْبِرُها دائمًا أَنَّها لَوْ كَانتْ تَعَرَّفَتْ عَلى ذُبابٍ مِثْلُها لَكَانَتْ تَقِفُ الآنَ عَلى أَكْياسِ القِمامةِ بَدلًا مِنَ السُّكَّرِ وَمَا زَادَ حَجْمُها نَتيجَة هَذِهِ الرَّفاهِية، وَكَانَتْ الذُّبابةُ تَسْتَمِرُّ فِي تَنَاوُلِ السُّكَّرِ..
وَفِي يَومٍ سَمِعَ صَخَبًا وَجَمْهَرَةً مِنَ النَّاسِ عَلى مَبْعَدَةٍ مِنْ حُجْرَتِهِ السُّفْلِيَّةِ، لَمْ يَهْتَمْ لَها فِي بَادِئ الأَمْرِ كَعَادَتِهِ، لَكِنَّهُ أَحَسّ بِزَلْزَلَةٍ فِي الحُجْرةِ، ثُمَّ فَجْأةٍ انْهارَ حَائطَ الحُجْرةِ المُواجِه للشّارعِ، مِنْ حُسْنِ حَظِّهِ أَنَّهُ كانَ بَعيدًا عَنْهُ، وَكَانَتْ تِلْكَ الآلةُ العِملاقةُ تُحاولُ هَدْمَ الحُجْرةِ، لَكِنَّهُم تَوَقَّفُوا عِندَما رَأَوه مُتَكَوِّمًا عِنْدَ الجَدارِ المُقَابِلِ وظلُّوا يَنْظُروا إِليْهِ وإِلى الذُّبابةِ العِمْلاقَةِ المُلتَصِقةِ عَلى إِحْدى وَجْنَتيهِ كشَامةٍ ضَخمةٍ تُشرِفُ علَى سَفحِ لِحيَته الكَثّة، وَفِي يَدِهِ اليُمْنَى المِصْباحُ الذي يُضِيئُهُ لتأكل الذُّبابةِ عَلى بُقْعَةِ ضَوْئهِ الباهِت، وَفِي اليَدِ الأُخْرى الكِتابُ، ظَلَّ هُوَ سَاكِنًا، وَأَخَذُوا يَتَأَمَّلوا الكِتاباتِ التي امْتَلأتْ بِها جُدرانِ الحُجْرةِ، والّتي لَمْ تَكُنْ فِي الحَقيقةِ غَيْر رَسْمِ وَجْهٍ دائِرِيّ بِلا أَنْفٍ أَوْ عَينين بِفَمٍ مُقَوَّسٍ باسِمٍ، وحوْل هذا الوَجه حُروف صَغيرة مُتشابِكة لَم يتمكّنوا مِن تمييزها، كَانت جُدرانِ الحُجْرةِ مُمْتَلئةً بِنَفْسِ هَذا الرَّسم. قَرَّروا التَّوقُّفَ عَنْ هَدْمِ الحجرة وَتَراجَعُوا، بَيْنَما طَارَت عَنْهُ الذُّبابةُ وَابْتَعَدَتْ مُتَثاقِلَةً إِلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي الخَارِجِ، فَلَوَّحَ إِليْها بِأَصَابِعِهِ المُنْهَكَةِ المُرتعِشة التي بِالكادِ اسْتَطاعَ أَنْ يَرْفَعَها، لَكِنَّ الذُّبابةِ اخْتفَتْ، عَلِمَ أَنَّها وَجَدَتْ مَا تَبْحَث عَنْهُ فغفر لها، وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْ وَجَدَ هُوَ الآخَرُ ما يَبْحَثُ عَنْهُ أَمْ لا، وَاكتَشَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَبْحَثُ عَنْ شَيءٍ بَعْدَما قَارَنَ نَفْسَهُ بِالذُبابَةِ. نَظَرَ مليًّا إلى ضَوءِ الشَّمسِ في الخَارجِ، ولِسَببٍ ما فَكّرَ أَنَّ أَحدَهُم أشْفَقَ عَلى البَشَرِ فسَلّطَ عليهِم الشَّمسَ ليَعيشُوا في ضَوئها، لَكنَّه مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعطِهم السُكّر، فَكان أَنْ عَاشوا مَعًا فِي القِمامةِ- القِمَامةِ البَشَريَّة، كَما أَسْماها السَيِّد لامْ.